في الجزء الأول من هذه السلسلة تحدثت عن الأثر النفسي الذي من أجله شُرع القصاص، وخصوصًا الأثر المترتب على الحالة النفسية لذوي المقتول، ثم بينت أن هناك آثارًا سلبية تنتج عن عدم تطبيق شرعة القصاص، أو تأجيل التطبيق والمماطلة فيه، وخصوصا إذا كان ذلك لا مبرر له، وقلت إن ذلك ينعكس على شكل سفك مستمر للدماء، وترسيخ ثقافة (الثأر)، وأن التأخير لو كان مبررًا فالأصل أن يفهمه ذوو المقتول على الأقل.
أما اليوم فنتحدث عن سبب آخر من أسباب ثقافة الثأر، التي تغرق المجتمع في دائرة الانتقام المتبادل، وتعمل على سفك المزيد من الدماء، وإزهاق الأرواح، وهذا السبب هو (قلة الوازع الديني) بما يمثله من عدم الاكتراث بشرع الله تعالى وخصوصا، الأحكام المتعلقة بموضوع القصاص.
الأصل أن الوازع الديني أو الوجدان أو الضمير – سمه ما شئت – هو الحارس على سلوك الإنسان وتصرفاته، وهو الرقيب على هذه التصرفات، بحيث إذا كان قويًا سليمًا، يمنع الإنسان من مخالفة أحكام الإسلام، وهذا يدل عليه قول الله - تعالى – (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)، يقول النسفي في تفسيره لهذه الآية: "وأن عادة المتقين إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته {تَذَكَّرُواْ} ما أمر الله به ونهى عنه {فإذا هم مبصرون} فأبصروا السداد ودفعوا وسوسته وحقيقته أن يفروا منه إلى الله فيزدادوا بصيرة من الله بالله" فبالحسّ الديني يتذكر الإنسان أن الرغبة في عمل ما نهى الله عنه إنما هو وسوسة شيطان، وأنه ينبغي عليه الإسراع في الرجوع إلى الله – تعالى – والتزام أمره ونهيه، وفي هذا يقول الله -تعالى- أيضًا: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، هكذا هو الوازع الديني، بمجرد ما يشعر الإنسان أنه أذنب، يُصاب بالخوف من الله –تعالى- فيذكر الله ويستغفر لذنبه، لعلمه أنه لا يغفر الذنوب إلا الله، وأنه لا يسع المؤمن أن يخالف أمر الله تعالى.
ولكن إذا تراجع الوازع الديني عند الإنسان، فلا يهمه بعد ذلك أن يرتكب من المعاصي ما يرتكب، حتى وإن كانت هذه المعاصي هو الكبائر التي نهى الله – تعالى – عنها، وحتى إذا كانت معصيته سفكًا لدماء الناس.
وتراجع الوازع الديني سبب لعدم التربية الإسلامية الصحيحة، فتربية الوازع الديني عند المسلم هو عنصر مهم من عناصر التربية الإسلامية، لما لهذا الوازع من أثر عميق في سلوك المسلم وتصرفاته، فهو الذي يرد المسلم إلى ربه تلقائيًا ودونما تدخل خارجي.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن سوء التربية، وتجاهل التربية الإسلامية، هو سبب من أسباب انتشار الجرائم ومنها جريمة القتل، وانتشار ثقافة (الثأر)، والمسؤولية هنا تقع على كل من له علاقة بالتربية؛ ابتداء من البيت، ثم المدرسة ثم المسجد والجامعة، ثم كل مؤسسات الدولة المسؤولة عن التربية المجتمعية، ثم مؤسسات المجتمع المدني التي لها صلة بالأمر، كلهم مسؤول عن تراجع الوازع الديني عند من تراجع إحساسهم بالخوف من الله – تعالى – وكلهم مسؤول عن هذه الدماء التي تسفك بسبب ذلك.