"الحمد لله، خلصنا تنزيل الأغراض بعد تعب كبير" تنهيدة طويلة خرجت من قلب الشاب فارس الترتوري وهو يضع يده على ظهره من شدة التعب عندما كان يحدّث أحد الجيران في حي قيزان النجار جنوب محافظة خان يونس بعدما اضطر لتناول الدواء لتسكين الآلام التي تعرض لها نتيجة العمل المتواصل في نصب خيام لعائلته. لم يكمل كلامه حتى قاطعه جاره ناقلا له خبرا صادما "بقولوا في أوامر إخلاء للمنطقة".
تغيرت ملامح الشاب ووقف مصدومًا وهو يطالع هاتف الشاب وانضم إليهم أخرون من العائلة والجيران يقرؤون بصدمة منشور الإخلاء الذي تبعه اتصالات هاتفية للمنطقة أدت لحالة إرباك كبيرة بين الأهالي والنازحين.
فبعد عشرة أيام من العمل المتواصل في نصب الخيام داخل دونم أرض استأجرتها عائلة الترتوري محاطة بسور خارجي من الحجارة وجدته أنسب مكان يتجمع فيه كل هذا العدد الكبير، بعد نزوحها من منطقة الشاكوش غرب رفح إلى حي قيزان النجار جنوب محافظة خان يونس، انشغل شباب العائلة خلال تلك المدة بالعمل اليومي المتواصل في تنزيل الأغراض ونصب الخيام داخل أرض محاطة بسور حجارة، تفاجأت بقرار إخلاء الاحتلال شرق المحافظة وبدأت رحلة نزوح رابعة خلال عشرين يومًا.
نزوح متكرر
وخلال عشرين يومًا نزحت العائلة أربع مرات فانتقلت من منطقة "كندا" الواقعة بحي تل السلطان غرب محافظة رفح في 28 مايو/ أيار الماضي، لمنطقة الشاكوش غرب المحافظة، والتي شهدت اعتداءات جيش الاحتلال عليها، ثم انتقلت لقيزان النجار قبل أن تنزح لغرب المحافظة مع قرار الإخلاء الجديد.
يقول الترتوري لـ "موقع فلسطين أون لاين" بينما كان يساعد عائلته في نقل الأغراض "في الشاكوش كان الوضع يزداد سوءًا حتى أننا اضطررنا لإخلاء المنطقة لمدة يومين بعد ارتكاب الاحتلال لمجازر بحق النازحين، فكان يوميا يصاب النازحون أو يستشهد العديد منهم عشنا هناك بخوف ورعب كبير ونزحنا تحت القصف".
الشاب الذي يدرس بالمستوى الثالث بكلية الطب بجامعة الأزهر لم يجرب هذا الإرهاق والتعب المتواصل في حياته. يشير داخل الأرض التي تمتلئ بالخيام المصنوعة من الأخشاب والشادر قائلا بنبرة مليئة بالغضب "الآن بكل سهولة بعد هذا التعب والتركيب وإنشاء دورة مياه تريد فك الأغراض وتبدأ رحلة جديدة من التعب والإرهاق والخسائر المادية لكن هذه المرة نسير للمجهول ولا نعرف إلى أين سنتجه وننزح".
رحلة نحو المجهول
على مقربة منه يقف الحاج رفعت الترتوري أبو إسماعيل موجهًا الشباب لبدء فك الخيام والأخشاب، وإعادة الأغراض والأمتعة داخل صناديق تمهيدًا لنقلها داخل حافلتين صغيرتين أحضرهما، وهو الذي قبل أسبوع كان يقف على ذات المدخل لتنزيل الأغراض من حافلة كبيرة عندما وصلت العائلة في ساعات متأخرة من الليل واستمرت حتى ساعات الفجر في تنزيل الأغراض.
"عندما جئنا إلى هنا قمنا بتنظيف الأرض من الحشائش بهدف طرد الثعابين والعقارب، وبذلنا جهدا كبيرا في ذلك، لم يكن نصب الخيام سهلاً، فدفعنا نحو 3500 شيقل فقط لنقل الأغراض من منطقة الشاكوش إلى هنا وسندفع قرابة 2000 شيقل في الانتقال لغرب المحافظة الآن" يقول الحاج الترتوري لموقع "فلسطين أون لاين" بينما يقف على مدخل الأرض موجها شباب العائلة في عملية نقل الأغراض.
يتجمع القهر في صوته وملامحه بلهجة عامية "انت بتعرف لما تقعد تنصب خيام لعدة عائلات ما بكونش الأمر سهل عليك لا من ناحية جهد ولا من ناحية مادية، وبسهولة بيعطوك أمر إخلاء!".
علامات الحسرة والقهر التي رسمتها ملامح الحاج ذاتها التي انطبعت على وجوه أهالي المنطقة التي استقبلت نازحين من منطقة الشاكوش ومناطق أخرى، واضطروا أيضا لنقل الخيام والبدء في رحلة نزوح مليئة بوجع التشرد والانتقال من منطقة إلى أخرى.
بالكاد استطاعت العائلة أن تعيش يوما خاليا من العمل داخل الأرض، تجمعت فيه عبر شاشة الأخبار واستقرت أحوالها وخططت أن تعيش هنا حتى انسحاب الاحتلال من محافظة رفح.
كان قرار إخلاء قيزان النجار وشرق خان يونس ما هو إلا لتنغيص "حياة الناس ومنعهم من الاستقرار، حتى في حياة النزوح القاسية في الخيام والحر الشديد بعيدا عن بيوتهم" لم يجد الحاج سببا آخرا غير ما تحدث وراء دفع جيش الاحتلال لإخلاء المنطقة وخلق حالة بلبلة.
وبعد يومين من أوامر الإخلاء نقلت العائلة معظم أغراضها وبقي بعض أفرادها في الأرض، عادت مئات العائلات للمنطقة، تعيش عائلة الترتوري معلقة بين الاستقرار في المكان الذي نزحت إليه غرب محافظة خان يونس أو العودة إلى قيزان النجار.
ويخيف هذا الهدوء الحذر الذي يخيم على شرق محافظة خان يونس كافة الأهالي تحسبا لأي "غدر إسرائيلي" أو اجتياح مفاجئ كما فعل بعدة مناطق، وهو ما جعل العديد من العائلات تؤجل قرار العودة لمدة أسبوع بانتظار مراقبة الأوضاع.
تحكي ملامح الحاج أبو إسماعيل قصة شعب عاصر بدايتها إبان النكبة الفلسطينية وها هو يعيش تفاصيل أخرى منها برفقة أحفاده، يرتدي صوته ثوب الحزن قبل أن تتحرك الحافلة بعدما نقلت العائلة معظم أغراضها "تعبنا، عشرة أيام تنزيل أغراض، وعندما ما بدأنا نستقر ونعبد الله أجى قرار الإخلاء. حسبنا الله ونعم الوكيل".