في ظلال الحروب التي خلّفت المآسي والكوارث، تأتي الأعمال الأدبية والسينمائية لا من أجل المتعة أو الترفيه، بل كشهادات حية على الرعب الذي يحمله العنف البشري. وهنا يبرز الفيلم الألماني "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" الصادر في عام 2022، الذي نال عن جدارة جائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي، لتصويره المؤثر لويلات الحرب بشكل عميق، وهذا يرجع لكون قصة الفيلم ترجع إلى رواية بنفس الاسم للكاتب الألماني والجندي السابق في الحرب العالمية الأولي إريك ماريا ريمارك، الذي استطاع بصدق وواقعية شديدة نقل الحرب بعيداً عن صورتها البطولية وما تكتنفه من خطابات عن الفخر القومي الفارغة.
تبدأ الرواية بروح مرحة وأجواء من الأمل والتفاؤل؛ حيث يسرع الشباب إلى الجبهة تاركين دراستهم وحياتهم، مدفوعين بآمال المجد والشرف. لكن سرعان ما تنقلب الأمور وتتحول الحماسة إلى كابوس ينسف الرومانسية القتالية التي طُرزت بها أحلامهم.
ربما على نفس الجبهة من الحرب، وبينما كان ريمارك في صفوف الجيش الألماني يشارك ويشهد حقيقة الحرب، كان الجندي والشاعر البريطاني الآخر، ويلفريد أوين، يكتب قصيدته "Dulce et Decorum est"، والتي تُعرف باسم "الكذبة القديمة"، مصوراً الحقيقة المريرة للحرب.
حيث يصف فيها جنوداً مرهقين أضاعوا أحذيتهم، يعرجون في الطين وأظهرهم محنية، وآخرين يغرقون في سوائل أجسادهم إذ داهمهم الغاز السام قبل أن يتمكنوا من ارتداء أقنعة الغاز. يحكي أوين كيف طاردته هذه المشاهد الشنيعة في الحلم واليقظة.
جاءت تلك الأعمال الأدبية على جبهتي المعركة كصرخة، للخطابات القومية والبيروقراطية التي كانت تصور الحرب للشباب كلعبة مسلية. فمع انتهاء ويلات الحربين العالميتين وظهور هذه التجارب الإنسانية إلى العلن، وجد الكثير من الغربيين أنفسهم في حالة صدمة نفسية عميقة، أثرت على رؤيتهم للعالم من جوانب الفن والفلسفة والسياسة.
هل تؤدي الثورة التكنولوجية لأخرى أخلاقية؟
مع مرور الزمن، وزيادة سرعة التطور التكنولوجي، وتحديداً في فترة الستينيات، أصبح التلفزيون، ذلك الجهاز العجيب آنذاك، في كل بيت من بيوت الولايات المتحدة. وكانت حينها صور الحرب الوحشية في فيتنام تبث على التلفاز، فصار الإنسان قادراً على رؤية بشاعة الحرب ودمويتها أمام عينيه، وليس فقط عبر وصف أدبي من جندي عاشها. ولأن الصورة أقوى ألف مرة من الكلمة، اشتعلت المظاهرات المناهضة للحرب في أمريكا وكل أنحاء العالم رفضاً لهذه المشاهد المروعة.
تكرر نفس الشعور والتضامن الإنساني خلال الغزو الأمريكي للعراق في بداية الألفية الثانية. فبدأ العالم يدرك أن المواطن العادي بات يدرك معنى الحرب وبشاعتها ويرفضها بغض النظر عن الخطابات البيروقراطية التي تحاول حشد الصفوف لتبارك مصدر تربحها.
الصورة التي غيرت كل شيء
أخبرني صديق أمريكي ذات مرة أنه كان رجلاً أبيض لا يهتم بما يحدث في الشرق الأوسط، ويرى قضية إسرائيل وفلسطين كصراع ديني على قطعة من الأرض، وأن الإسرائيليين هم الجانب الطيب في هذه المعادلة، لذا تدعمهم أمريكا بالسلاح والمال. لماذا؟ لم يكن يعلم، فسياسيوه أخبروه بذلك، ولم يكن لديه سبب للتشكيك في هذه الرواية. لكن كل شيء تغير بسبب صورة رآها في عام 2014.
كانت الصورة من "سينما سديروت"، وهي مشهد لمجموعة من الإسرائيليين يجتمعون مع أطفالهم على تلة في مستوطنة سديروت المطلة على قطاع غزة المليئ بالأطفال والنساء، يشاهدون قصف القطاع بالصواريخ الإسرائيلية، بينما يشربون البيرة، ويتناولون الوجبات الخفيفة، ويلتقطون صور السيلفي للذكرى.
ولأنه لا شيء يمكنه أن يبرر الاستمتاع بمشاهدة الحرب، دفعه هذا المشهد للبحث في القضية ليصبح واحداً من أكبر المناصرين لحق الفلسطينيين. إن ما حدث مع هذا الرجل هو بالضبط ما يحدث مع ملايين الناس حول العالم منذ بدأ العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
كما صورت الحربين العالميتين في الوسيط الأدبي، ونقلت ويلات حرب فيتنام وبعدها العراق بالصوت والصورة على التلفزيون، أذيعت الحرب على غزة مباشرةً وبدون رقابة وبإنتاج ضحايا حرب الإبادة الجماعية أنفسهم على منصات التواصل الاجتماعي، لتصدم العالم، الذي يعرف بالفعل معنى الحرب وبشاعتها، بمستوى جديد من الرعب الكوني لم يشهد له مثيلاً مسبقاً.
ولأنه لا شيء ممتعاً في مشاهدة الحرب ولا يوجد أي مبرر لرؤية أناس يستمتعون بمشاهدة قتل أبرياء، بينما يحتسون الجعة ومنتشين بالصواريخ التي تفتك بأجساد غيرهم، دفعه هذا المشهد الدموي والعبثي للبحث عن حقيقة القضية الفلسطينية بعيداً عن خطابات سياسيي وإعلام بلاده، ليصبح فيما بعد واحداً من أكبر المدافعين عن حقوق الفلسطينيين.
ما حدث مع هذا الرجل يتكرر اليوم، وبشكل أسرع، مع ملايين الناس حول العالم منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
فكما صورت ويلات الحربين العالميتين في الأدب، ونقلت فظائع حرب فيتنام وبعدها العراق بالصوت والصورة عبر التلفزيون، فإن الحرب على غزة بُثت مباشرةً وبدون رقابة على منصات التواصل الاجتماعي، بل ومن أفواه ضحايا الإبادة الجماعية أنفسهم. فصدمت هذه المشاهد العالم، الذي كان يعرف مسبقاً معنى الحرب وبشاعتها، فأصبح الجميع في العالم اليوم، أمام مستوى جديد من وعي بالبشاعة والعنف البشري، الذي لم يسبق أن حدث بهذا الكم ومباشرة بالصوت والصورة على مدار الساعة أمام الجميع.
العالم يستيقظ على مهرجان من الجنون
لم تكن صورة "سينما سديروت" تعبر عن قلة أو بعض المتطرفين أو المهاويس، بل كانت تجسيداً لرؤية الاحتلال الإسرائيلي بأكمله، الذي ينظر إلى الفلسطينيين كأقل من البشر، ويستحقون القتل والتنكيل. هذا ليس مجرد تحليل، بل هو ترجمة مباشرة لتصريحات وسياسات واضحة من قادة الاحتلال الإسرائيلي، الذين لا يترددون في إصدار تصريحات شديدة التطرف تدعو لإبادة الفلسطينيين باسم الرب. فرئيس الوزراء نتنياهو، في أكثر من خطاب استعمل الأساطير الدينية لتبرير وتحفيز جيشه لقتل المدنيين في غزة، فقد شبه العدوان على قطاع غزة بحرب توراتية بين بني إسرائيل والعماليق، حيث قال: "في الكتاب المقدس، يقول لنا الرب: (تذكر ما فعله العماليق بك)، ولذلك فإننا نتذكر ونقاتل". بينما صرح وزير الدفاع بشكل مباشر بأن الفلسطينيين في غزة "حيوانات بشرية"، أما وزير التراث فطالب بشدة بضرورة إلقاء قنبلة ذرية على القطاع.
ولم تقف تلك التصريحات الدينية المتطرفة عند قادة الاحتلال فحسب، بل لداعميه أيضاً فبعد اشتعال الانتفاضة الطلابية في جامعات الولايات المتحدة، وفي استجواب رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق، يخطب رجل الكونغرس الجمهوري ريك ألين محذراً من أن يلحق بجامعة كولومبيا لعنة الرب بسبب المظاهرات التي نظمها طلابها دعماً لقطاع غزة، وقال: "لقد كان العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم، وكان هذا العهد واضحاً جداً: إذا باركت إسرائيل أباركك، وإذا لعنت إسرائيل ألعنك، ثم وجه سؤالاً لشفيق: "هل تعتقدين هذا أمراً جدياً"، و"هل تريدين أن تتعرض كولومبيا للعنة الرب؟"، لترد شفيق: "بالتأكيد لا". وأضاف: "يجب تثقيف الشباب على يد هؤلاء الأساتذة، والإيمان بهذا الكلام.. ليست لديهم فكرة أن الرب سيلعنهم".
المنطق يغيب عن الغرب فجأة!
ما زالت الولايات المتحدة وحلفاؤها من دول في أوروبا وغيرها يتنهجون رؤئ وسياسات استعمارية واستعلائية فيما يخص فلسطين، إذ ما زالوا يقدمون دعماً دبلوماسياً وسياسياً وعسكرياً وإعلامياً غير محدود لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة. بل ويروجون لكل أشكال الكذب الصريح في تصريحاتهم وتناولهم الصحفي للحرب، كذباً مجنوناً يجعل رؤوس الناس تدور، لأن كل كذبة يطلقونها نرى حقيقتها في فيديو مصور على منصات التواصل الاجتماعي.
لكن يبدو أن التطرف والكبرياء الاستعماري، يجعل أغلب الساسة الغربين يتجاهلون حقيقة أن كل إنسان تقريباً على الكوكب، بما فيهم أهل غزة وجنود الاحتلال أنفسهم، يملكون هواتف ذكية وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي يمكنها بث واستقبال صور حية ومباشرة من الواقع تناقض كل الأكاذيب المنشورة في فضاء بيروقراطيتهم الغربية.
هذا التطور التكنولوجي بجانب نقله للحقيقة ومساندة الحق الفلسطيني، يكشف في نفس الوقت ازدواجية معايير ونفاق الدول الغربية وقادتها التي صدعتنا بخطابتها الزائفة عن مبادئ الديمقراطية والحرية ونبذ التطرف، بينما يخطب ساسته الفاسدين اليوم بخطابات عنصرية وأساطير دينية تبرر دعم الإبادة الجماعية بحق الأبرياء في غزة.
هذا التناقض الصارخ بين ما كان يُدعى من قيم وما يُمارس من سياسات، يصور ويتم تدوينه بالصوت والصورة ليُظهر للجميع في كل مكان الحق الفلسطيني الذي طمس لعقود، ويقول إنه لا سبيل للمقاومة ليسمعك ويراك العالم.