فلسطين أون لاين

صحف عالمية: لهذه الأسباب هزمت "إسرائيل" عسكريًا بغزّة وجعلت "حماس" أقوى مما كانت عليه !

...
صورة تعبيرية
غزة/ فلسطين أون لاين

لم تنل 9 أشهر من العمليات القتالية الجوية والبرية الإسرائيلية في غزة، المدعومة بأطنانٍ من الأسلحة والمتفجرات والعتاد العسكري المتطور، على عزيمة مقاتلي المقاومة الفلسطينية وأبرزهم كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، بل إن "إسرائيل" ليست حتى قريبة من هزيمة الحركة. بل على العكس من ذلك، أصبحت حماس اليوم أقوى مما كانت عليه في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كما تقول مجلة foreign affairs الأمريكية.

وقالت المجلة في تقريرٍ لها إنّه بعد "تسعة أشهر من العمليات القتالية الإسرائيلية في قطاع غزّة، لم تُهزم حماس وليست قريبة من ذلك أيضاً".

كما أضافت الصحيفة أنّ "إسرائيل" غزت قطاع غزّة بنحو 40 ألف جندي وهجّرت 80% من السكان قسراً، وقتلت أكثر من 37 ألف فلسطيني، وأسقطت ما لا يقلّ عن 70 ألف طن من القنابل على القطاع، وألحقت أضراراً بأكثر من نصف مبانيه، وقيّدت وصول المنطقة إلى المياه والغذاء والكهرباء، ما ترك السكان بالكامل على حافّة المجاعة.

وعلى الرغم من أنّ العديد من المراقبين سلّطوا الضوء على عدم أخلاقية سلوك "إسرائيل"، فإنّ القادة الإسرائيليين ظلّوا يزعمون باستمرار أنهم أقرب إلى هزيمة حماس وإضعاف قدرتها، ولكن الأمر الذي تبيّن الآن هو أنّ "قوّة حماس آخذة في النمو فعلياً"، وفق "فورين أفيرز".

ووفق المجلة، فإنّ الخلل المركزي في استراتيجية "إسرائيل"، ليس فشل التكتيكات، "بل إنّ الفشل الذريع كان عبارة عن سوء فهم فادح لمصادر قوّة حماس"، ومما ألحق ضرراً كبيراً بـ"إسرائيل"، أنّها فشلت في إدراك أنّ المذبحة والدمار اللذين فرضتهما على غزّة، لم يؤديا إلا إلى زيادة قوة المقاومة.

واليوم، أكّد مسؤول أميركي لشبكة "CBS"، أنّ "إسرائيل" ليست قريبة من تحقيق هدفها "بتدمير حماس"، وذلك في ظلّ غياب وجود أيّ خطة إسرائيلية لليوم التالي للحرب في غزّة.

وفي وقتٍ سابق، أفاد الناطق باسم "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، دانيال هاغاري، أنّ الحديث عن تدمير حركة حماس هو "ذرٌّ للرماد"، مضيفاً أنّه "إذا لم تجد الحكومة الفلسطينية بديلاً لحماس فالحركة ستبقى".

استراتيجية "إسرائيل" الفاشلة في الحرب تجعل حركة حماس أقوى

وبفعل الهجوم الإسرائيلي، تقول المجلة الأمريكية إن قوة حماس آخذة في النمو فعلياً، كما ازدادت قوة "الفيت كونغ" (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام) خلال عمليات "البحث والتدمير" الضخمة التي اجتاحت معظم أنحاء فيتنام الجنوبية في عامي 1966 و1967 عندما أرسلت الولايات المتحدة قواتها إلى البلاد في محاولة غير مجدية لتحويل مسار الحرب لصالحها، فإن حماس لا تزال قائمة وقوية.

لقد تطورت هذه الحركة إلى قوة "عصابات مسلحة" عنيدة ومميتة في غزة، مع استئناف العمليات البرية في المناطق الشمالية التي كان من المفترض أن إسرائيل قامت بالسيطرة عليها قبل بضعة أشهر فقط كما زعمت.

ولعل المتابع للمشهد في غزة، تذهله اللقطات المصوّرة التي تبثها كتائب القسام لعملياتها ضد قوات الاحتلال، المتوغلة في عدد من المحاور، وهو ما يؤكد وهم هدف القضاء على المقاومة.

لماذا فشلت "إسرائيل" عسكريًا في قطاع غزّة؟؟؟

من جهتها، تقول مجلة إيكونوميست البريطانية، إن الفشل الأول للجيش الإسرائيلي هو الإستراتيجية، حيث يقع اللوم في المقام الأول على السياسيين الإسرائيليين، وتحديدا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذين رفضوا قبول أي قوة فلسطينية بديلة تسيطر على غزة. كما تقع المسؤولية أيضا على عاتق الجنرالات وفهمهم لكيفية قياس النجاح هناك.

أما الفشل الثاني، فهي الطريقة التي خاض بها الجيش الإسرائيلي هذه الحرب، وتحديدا المستويات العالية من الدمار وقتل المدنيين. ويرجع ذلك إلى عاملين رئيسيين. أولا: التوجيهات العملياتية التي تسمح بالضربات حتى عندما يكون احتمال قتل المدنيين كبيرا، وثانيا: عدم الانضباط داخل الجيش الإسرائيلي في الالتزام بهذه القواعد.

وتنقل إيكونوميست عن ضابط احتياط خدم في غزة قوله إنه يمكن لأي قائد كتيبة تقريبا أن يقرر أن كل ما يتحرك في القطاع هو إرهابي أو أنه يجب تدمير المباني لأنه كان من الممكن أن تستخدمها حماس.

على المستوى التكتيكي والميداني، يفسر الكاتب الفلسطيني والمحلل السياسي، سعيد زيادة، الوضع الميداني في ٤ نقاط مركزية:

أولا: حجم النيران ومبدأ التأمين: يعتمد العدو بشكل مركزي في تحرك قواته على تأمينها بزخم ناري هائل، فبالعودة لبداية المعركة، إلى الأيام العشرين الأولى من القتال والتي سبقت المناورة البرية، سنرى كيف نفذ العدو قصفا سجاديا غير مسبوق، من خلال ما يقرب من عشرة آلاف غارة من السماء، وثلاثين ألف قذيفة من القطع البحرية وقطع المدفعية، مستهدفاً بشكل رئيسي تسوية المناطق والأحياء التي ينوي التقدم إليها، وقد دمر أحياءً كاملة مثل حي الكرامة، وأبراج المخابرات في منطقة غرب غزة، والتي شكلت منطقة هجوم العدو الرئيسي في الجولة الأولى من المناورة البرية، بقيادة الفرقة المعادية 162، وقد استمر هذه النوع من التمهيد الناري طيلة أيام القتال في المرحلة الثانية.

هذا الزخم -بخاصة النيران التمهيدية- أصبح أقل بطبيعة الحال في الجولات القتالية التالية، نظراً لمشكلات فنية مثل تقلص مخزون الذخيرة عند العدو، ومشكلات سياسية من قبيل عدم احتمال الحالة السياسية الإقليمية والعالمية أن تكون المعارك بذات الدموية التي كانت عليها في النصف الأول من أيام القتال. وعلى الرغم من ذلك؛ لا يزال العدو متمسكاً بمبدأ التأمين، بسبب خشيته المفرطة من الخسائر، فهو من أكثر جيوش العالم حساسية من تعداد خسائره، خاصة وأن قرار إرسال الجنود إلى جبهات القتال مرتهن بالروح المعنوية لأمهات المقاتلين. هذا الأمر جعل جيش العدو ثقيلاً، لا يمتلك رشاقة المقاتلين من المقاومة.

ثانيا: معنويات المقاتلين: عادة ما يمتلك المهاجم معنويات عالية، إلا أنه هذه المرة يدخل بمستوى معنويات منخفض، بسبب عجزه عن أداء المهمة في المرة الأولى وطول أمد القتال بلا جدوى، أما المدافعون، فمن الواضح أنهم يمتلكون روحاً تعرّضية أكثر بكثير من القوات الغازية، ويمكن أن نرى ذلك في الزخم القتالي العالي والعمليات الدقيقة والكثيرة التي ينفذها المقاومون، والثبات الأسطوري الذي يبديه سكان المخيم ومقاتلوه.

هذه المعنويات العالية والروح القتالية الجسورة كسرت ما تبقى من هيبة الحرب عند المقاتلين، خاصة بعد فشل العدو في كسر المشروع خلال المرحلة السابقة، وتجاوز مرحلة الخطر الوجودي (سيناريو التهجير وغيره). ويمكن أن نرى شواهد ذلك في حالة التسابق على ميادين الاشتباك  بشكل مذهل، ففي الجولات السابقة من القتال كنا نشاهد، مثلا، استهداف دبابة واحدة بقذيفة ياسين واحدة، لكننا شاهدنا في هذه المعركة استهداف ثلاث دبابات دفعة واحدة، مرة في معسكر جباليا، ومرة في رفح.

ثالثا: المرونة التكتيكية: “حماس تقاتل كالحرباء”، هكذا يقول جنرال كبير في جيش العدو محاولا توصيف قدرة المقاومة على تبديل تكتيكاتها وتغييرها بما يتلاءم مع طبيعة الميدان ومستجدات مسرح العمليات. وهذا ما شهدناه في معركة جباليا الثانية تحديداً، من إدخال تكتيك البيوت المفخخة إلى مسرح العمليات، والذي لم يبرز بذات القدر الحالي في معركة جباليا الأولى، وكذلك على صعيد العمليات المركبة، طبقات ومراحل بعضها فوق بعض، بالاستفادة من استثمار النجاح في كل طبقة والمراكمة عليه، والتي أفرزت نجاحات بارزة وإصابات في مقتل القوات الغازية.

رابعا: العمى الاستخباري: العدو الذي اعتاد الدخول في معاركه بمخزون أهداف ثقيل، فقد جزءا كبيرا منه بعد استهلاكه في الغارات الكثيفة والعنيفة، وفقد القدرة على ترميم هذا المخزون نتيجة سلب المقاومة قدرته على ذلك لعدة أسباب، منها تغيير طريقة عملها وقتالها وانتشارها في ميدان القتال، وكذلك إجراء تعديلات على منظومة الاتصال والتواصل وتكتيكات القيادة والسيطرة، وأيضاً فقد العدو جزءا كبيرا من خارطة الأهداف العسكرية نتيجة القصف المجنون، الذي غيّر ملامح البنية الحضرية للقطاع تغييراً جوهرياً، مما أفقده عناصره البشرية على الأرض وأي تحضيرات فنية كانت تساعده في جمع المعلومات حول المقاومة.

هذا العمى، أدخل قوات العدو في معضلة حقيقة في مسارح العمليات، مما اضطرهم للاشتباك القتالي عن قرب، وذلك على عكس تكتيكه الذي يقوم على القتال بالأذرع الطويلة خشية الوقوع فريسة الضربات القاصمة.

اليقين الذي تبدد: استعصاء الحل العسكري

على صعيد المقاومة، يقول الكاتب زيادة، "أرى أنها لا زالت تحتفظ بسيطرة ميدانية عالية، وجبهة داخلية -مرهقة ومتعبة- لكنها صامدة، وبيئة إقليمية لصالحها، ونجاح كبير في تأمين الأسرى. وعلى صعيد العدو، تتصاعد حدة الخلاف الداخلي، ويشتد الحصار الدولي، وتزداد وطأة المحاكم الدولية والدعاوى القضائية، كما يرتفع صراخ عائلات الأسرى وأمهات الجنود، وأيضاً يتسلل لعقول قادة العدو العسكريين قناعة مفادها أن الحل العسكري بات مستحيلاً، وضغط أمريكي بضرورة الحل الدبلوماسي العاجل وإلا ستكون اسرائيل مهددة بتبديد إنجازاتها التكتيكية".

ما سر قوة حماس؟

فعلى الرغم من تدمير غزة والحديث عن تقويض قدرات الحركة، إلا أنها ما زالت تسيطر فعلياً على مساحات واسعة من غزة وتهاجم القوات الإسرائيلية المتوغلة في القطاع من الشمال وحتى الجنوب.

وبحسب مصادر "فورين أفيرز" من المرجح أن لدى حماس نحو 15 ألف مقاتل معبأ على الأرض، أي ما يقرب من عشرة أضعاف عدد المقاتلين الذين نفذوا هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول.

علاوة على ذلك، لا يزال أكثر من 80% من شبكة الأنفاق تحت الأرض التابعة للتنظيم صالحة للاستخدام في التخطيط وتخزين الأسلحة والتهرب من المراقبة والاحتفاظ بالأسرى وشن هجمات على القوات الإسرائيلية. ولا تزال أغلب القيادات العليا لحماس في غزة على حالها.

خلاصة القول، إن الهجوم الإسرائيلي السريع في الخريف قد أفسح المجال لحرب استنزاف طاحنة من شأنها أن تترك لحماس القدرة على مهاجمة الإسرائيليين حتى لو واصل الجيش الإسرائيلي حملته في جنوب غزة لفترات أطول.

وتشير "فورين أفيرز"، إلى أن قوة حركة مقاومة مسلحة مثل حماس لا تأتي من العوامل المادية النموذجية، وبدلاً من ذلك، فإن المصدر الأكثر أهمية لقوة حماس وغيرها هو القدرة على التجنيد، وخاصة قدرتها على جذب أجيال جديدة من المقاتلين والناشطين الذين يؤمنون بها، ومستعدين للموت من أجل هذه القضية. وهذه القدرة على التجنيد والإيمان في الفكرة متجذرة في عامل واحد: حجم وشدة الدعم الذي تستمده الحركة من مجتمعها.

حماس قادرة على تجديد صفوفها في كل مرة

على المستوى الشعبي، فإن دعم الحاضنة الشعبية يسمح للحركات المشابهة لحماس بتجديد صفوفها، واكتساب الموارد، وتجنب الكشف عنها، وبشكل عام، الحصول على مزيد من الموارد البشرية والمادية اللازمة لتعبئة ومواصلة العمليات المسلحة القاتلة. ولأن أفراد المجتمع متضررون جداً من إسرائيل وغاضبون لتدمير منازلهم أو فقدان أفراد من عائلاتهم أو أصدقائهم أو سلب أرضهم، يبحث هؤلاء عن الانتقام لأنفسهم في الانضمام إلى جهات مثل حماس، التي أثبتت أنها قادرة على الولادة في كل مرة تعرضت فيها لضربات عنيفة من قبل إسرائيل.

والأهم من ذلك، أن دعم المجتمع ضروري لتعزيز ثقافة الاستشهاد، حيث إن المجتمع الذي يكرم المقاتلين من أبناء الحركة الذين سقطوا خلال قتال عدوهم يساعد في الحفاظ عليها؛ والاستشهاد يضفي الشرعية على الأعمال القتالية ويشجع المجندين الجدد على الانضمام. وتضحية الفرد تحظى بمكانة عالية بين الفلسطينيين.

حرب قلوب وعقول

لقد تزايد الدعم السياسي لحماس، خاصة بالمقارنة مع منافسيها. على سبيل المثال، على الرغم من أن حماس ومنافستها الرئيسية، فتح، تمتعتا بمستويات دعم متكافئة تقريباً في يونيو/حزيران 2023، إلا أنه بحلول يونيو/حزيران 2024، تضاعف عدد الفلسطينيين الذين دعموا حماس (40% مقارنة بـ20% لفتح).

إن الهجوم الإسرائيلي لم يؤدّ إلى تأليب الفلسطينيين ضد حماس. ولم يؤدّ القصف الإسرائيلي والغزو البري لغزة إلى تراجع التأييد الفلسطيني للهجمات ضد الإسرائيليين، ولا إلى تراجع التأييد لهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول.

وتستمتع حماس بلحظة "الاحتشاد حول العَلَم"، ما يساعد في تفسير سبب عدم قيام سكان غزة بتقديم المزيد من المعلومات الاستخبارية للقوات الإسرائيلية حول مكان وجود قادة حماس والأسرى الإسرائيليين، كما تقول "فورين أفيرز".

من المؤكد أن العقوبات الهائلة التي فرضتها إسرائيل على غزة تدفع العديد من الفلسطينيين إلى الشعور بمزيد من العداء تجاه الدولة الصهيونية والالتفاف حول حماس.

من وجه نظر "إسرائيلية"، يتحدث محللون سياسيون إسرائيليون عن أجواء من التشاؤم في المشهد الإسرائيلي في ظل إصرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على الهروب من المسؤولية، رغم الخسائر في الجنود والعتاد بمعارك غزة، وما قد ينجم عن ذلك من "جر إسرائيل إلى المجهول" حسب وصفهم.

وكبّدت فصائل المقاومة الفلسطينية الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة في الجنود والضباط والعتاد والآليات العسكرية، خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من مايو/أيار حتى الوقت الحالي بشكلٍ مضاعف من خلال كمائن نوعية ومركبة، في منطقتي رفح وجباليا ومدينة غزة وشمالي القطاع.

ومن جانبه، يشير باحث إسرائيلي بارز إلى أن إسرائيل لا تفهم حركة حماس كما يجب، محذرا الإسرائيليين من الاستخفاف بالآخر، وفرض منطقهم عليه يميزان النظرة الإسرائيلية إلى “حماس” قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وأيضاً بعده.

ويقول ميخائيل ميليشتاين الذي شغل منصب مدير قسم الدراسات في الاستخبارات العسكرية، إنه عشية الحرب، اعتمدت النظرية الإسرائيلية على ثلاث افتراضات أساسية: حماس تحولت إلى حزب حاكم، ولم تعد مهتمة بالمغامرات الأيديولوجية؛ وهي تركز على تنمية القطاع المدني؛ وعموماً، تتجنب التصعيد.

على هذا الأساس، قدّر كثيرون في إسرائيل أن في استطاعة الاقتصاد أن يطغى على الأيديولوجيا، ووُضعت خطة لتغيير الواقع في غزة وتحويلها إلى “سنغافورة الشرق الأوسط”.

كما يقول ميليشتاين إن ضربة السابع من أكتوبر لم تؤد إلى اختفاء هذه النظرية الخاطئة، ولا سيما أن الذين وضعوا سياسة ما قبل الحرب يواصلون العمل حتى اليوم. ومن هنا يستنتج القول: “لهذا السبب، اعتمدت إسرائيل على الأمنيات خلال الحرب، أكثر من اعتمادها على التقديرات الواقعية. مثلا، إعلان أن حماس توشك على الانكسار، بسبب تفكيك أُطر كتائبها، أو لأنها خسرت سيطرتها على المجال العام. ويسود هذا النهج وسط صُنّاع القرار الذين يتشاجرون فيما بينهم بشأن النظام الذي سيقوم في اليوم التالي للحرب، بينما تستمر حماس، عملياً، في السيطرة على غزة، كما يسود هذا النهج أوساط المعلّقين الذين يقولون إن مكانة الحركة في تراجع، وأن الجمهور سينقلب عليها”.

هيمنة الاعتبار الأيديولوجي

يوضح ميليشتاين أنه عشية 7 أكتوبر، لم تفهم إسرائيل هيمنة الاعتبار الأيديولوجي على سلوك حماس، واستعدادها للتضحية بالحكم ورفاه الناس من أجل هذه الغاية. ويرى أنه تتضح صعوبة فهم قدرة الحركة على التأقلم، بالإضافة إلى التأييد الذي لا تزال تحظى به من كثيرين من الجمهور الغزّي.

كما يرى أن الحادثة القاسية التي وقعت في رفح، والتي سقط فيها 8 جنود إسرائيليين، تدل على نجاح حماس في الحفاظ على بقائها والعمل، بعد الضربات الشديدة التي تعرضت لها منظوماتها العسكرية. وتشنّ الحركة من خلال خلايا، أو “إرهابيين” منفردين، حرب استنزاف تمنع الاستقرار، وتوضح للسكان مَن هو سيد البيت في غزة.

وطبقا لميليشتاين، فإن الواقع الناشئ في القطاع يفرض نظرة نقدية حيال استراتيجية “المرحلة الثالثة” التي بدأت إسرائيل باعتمادها قبل نصف عام، وفي أساسها، الافتراض أن العمليات المحدودة من دون وجود دائم على الأرض المحتلة، يمكن أن يؤدي إلى انهيار سلطة “حماس” بالتدريج، وقيام نظام بديل.

ويضيف: “الواقع فعلياً مختلف: لا تزال حماس القوة الأولى في القطاع، ولا تسمح بنشوء بدائل (بل تقوم بإحباط هذه البدائل، مثلاً المحاولة الإسرائيلية إقامة صلة بالعشائر، أو استقدام عناصر أمنية من السلطة إلى القطاع)، ويضطر الجيش الإسرائيلي  إلى العودة مرة أخرى إلى المناطق التي احتلها في شمال القطاع خصوصاً”.

ويشير أيضا أنه ليس من المستغرب أن تظل حماس تحظى بتأييد شعبي، كما برز في الاستطلاع الذي نشره معهد خليل الشقاقي مؤخراً، وهو الثالث منذ بداية الحرب، ويشير إلى عدة توجهات أساسية: تأييد واسع النطاق لهجوم 7 أكتوبر، ولحركة حماس واستمرار حكمها في قطاع غزة، بالإضافة إلى إنكار جارف “للجرائم” التي ارتكبتها في يوم الهجوم. وكل هذا يجب أن يثير علامات استفهام بشأن الكلام الصارم الذي يطرحه المسؤولون رفيعو المستوى في إسرائيل فيما يتعلق بـ”القضاء على التطرف الفلسطيني”، الهدف الذي يتطلب تحقيقه نقداً ذاتياً ورغبة في التغيير غير موجودة حالياً.

ويقول إن العمل السياسي والعسكري لا يزال يعتمد على شعارات عامة، في طليعتها النصر المطلق والاقتراب من الحسم، إلى جانب نظريات ونماذج تبدو مضمونة في العروض والوثائق، لكن من الصعب تحقيقها عملياً. ويعود هذا بصورة أساسية إلى عدم فهم ثقافة الطرف الثاني، وهو الأمر الذي تسبب للأمريكيين بإخفاقات مريرة في فيتنام، والعراق، وأفغانستان.

ويتابع: “هذه الطريقة في التفكير تعكس خيبة أمل حيال صعوبة تحقيق الأهداف الاستراتيجية للحرب، وعدم القدرة على استغلال التفوق الواضح وتحقيق الحسم، وهو مصطلح يتلاءم مع حرب ضد جيش، وليس ضد تنظيم هجين، مثل حماس”.

وضمن رؤيته النقدية، يوضح ميليشتاين أنه مع دخول الحرب شهرها التاسع، يتوجب علينا أن نسأل عمّا إذا أصبحنا، بعد صدمة 7 أكتوبر، أكثر فهماً لمنطق “حماس” والسلوك الفلسطيني عموماً: الجمهور الغزّي يعاني، لكنه لا يتنكر لحماس.

وعن ذلك يضيف: “الحركة مستعدة للاستمرار في حرب استنزاف تحصد ضحايا ودماراً واسعاً لنسيج الحياة في القطاع. إن تنظيماً أيديولوجياً متطرفاً دمج نفسه في المجتمع، وتسلل إلى عقول الناس، لا يمكن مواجهته من خلال الاحتلال الكامل للأرض والبقاء واقتلاع وجوده بصورة منهجية، وخصوصاً في المجال المدني. ونظراً إلى أن إسرائيل لا تمتلك، حالياً، القدرة أو الإرادة لتحقيق هذا الهدف، فمن الأفضل التفكير في صفقة تترافق مع وقف الحرب، وتشكل أرضية لإعادة بناء داخلي عميقة، وبلورة خطة جدية، هدفها تغيير الواقع في غزة.