فلسطين أون لاين

تقرير قصَّة الشاب "الحلو".. عن أهوال النَّجَاة من الموت مرَّتيْن و"انتظار الأمل"

...
قصَّة الشاب "الحلو".. عن أهوال النَّجَاة من الموت مرَّتيْن و"انتظار الأمل"
رفح - نبيل سنونو

حطت رحال الشاب حسن الحلو وأسرته الناجين من الموت في منزل لجؤوا إليه وسط قطاع غزة؛ عله يلملم جراحات أصابت أجسادهم ومشاعرهم بفعل قصف إسرائيلي؛ لكن كأن إصابة واحدة لا تكفي حتى يباغت بفاجعة جديدة قلبت حياته رأسًا على عقب.

"مغلوب على أمره"، لا يقوى سوى على رفع كفيه داعيًا، ورأسه مترقبًا مصيره، يستلقي حسن (27 عامًا) مجبرًا على ظهره بعد أن حرمته إصابة أخرى من شبابه، وتحول إلى مقعد كعجوز أكل الدهر من عمره وشرب.

"هددنا جيش الاحتلال بنسف المربع السكني الذي نتواجد به، وسط مجازر ارتكبها في حي الكرامة شمال غرب غزة"،  يعود حسن من على سرير المستشفى بهذه الكلمات إلى بداية الحكاية.

في يوم 20 أكتوبر/ تشرين الأول فجرًا، صار جسد حسن وجهة لقطع "الزينقو" المتناثرة من سقف منزل خالته التي استضافتهم في محطة نزوح قسري، فور تعرض بيت مجاور لقصف إسرائيلي مباغت، يرافقها حائط منهار وعامود باطون، استقرا على جسده.

كسكاكين اخترقت الشظايا فخذه الأيمن بينما كان نائمًا على أريكة، وكاد الدخان والردم يوقفان تنفسه. وفي غمرة الظلام تسلل إلى حسن الظن بأنه الوحيد الذي نجا من الموت، حتى ناجى ربه: "يارب هل ماتوا كلهم (والداه وأخته وابنتاها وأخوه وخالته وأقاربها) وأصبحت وحيدا".

فجأة اخترق الصمت صوت أحدهم: "هناك سكان في المنزل، ويوجد أحياء". حينها قرر حسن مساعدتهم متحاملا على نفسه وجراحها، لكنه لم يقو على الوقوف.

انتزع قطع "الزينقو" من فخذه بيده، كأنما يسلط عليها جمرًا، ونظر حوله ليجد نافذة من البلاستيك فزحف إليها وكسرها ونادى أخاه بعدما سمع صوته وعرف أنه أحد الناجين.

أمسك أخوه يده وانتشله.

عاد الاثنان إلى المنزل المدمر جزئيًا، ووجدا عد من الشهداء من عائلة خالتهما، بينما أصيب الباقون.

"حينئذ نادت خالتي علينا، وكانت الأقرب إلى البيت المستهدف، واعتقدنا بالبداية أنها استشهدت، ولم نستطع أنا وأخي مساعدتها.. إنه شعور صعب أن تقف مصدومًا وعاجزًا أمام شخص يموت"، يشيح حسن بنظره ليداري دمعة ذرفها.

لكنهما غامرا واخترقا الدخان والردم لينقذا خالتهما.استغرق الأمر وقتًا حتى يتعافى حسن جزئيًا من الأثر النفسي لهذه المأساة، كما يقولأما فخذه المصاب فبدأ معه رحلة معاناة فور الإصابة.

محطة نزوح جديدة و"الاطمئنان" مفقود 

تشتتت أسرة حسن المصابة مجددًا، وباتت بلا حول منها ولا قوة ملقاة دون مأوى وفي لحظة فرج، عرض جيران خالته على أسرة حسن استضافتها، فوافقت.

photo_2024-04-28_21-23-33.jpg
 

يقول حسن: "كنا قد تدمرنا جزئيًا من ناحية مالية، وبعد فترة قصف منزلنا بالكامل في غزة".

بات حسن يبحث في محطة النزوح الجديدة عن أي شعور بالاطمئنانلكن سيناريو الموت فرض نفسه على الشاب وأسرته مجددًا في 10 ديسمبر عندما قصف الاحتلال أيضا منزلًا مجاورًا أدى لاستشهاد 40 مواطنًا فيه، وارتقى في المنزل الذي نزح إليه حسن شهيد وسجلت 6 إصابات هم أسرة الشاب.

طار حسن بفعل قوة القصف إلى سلم المنزل، وعندما حضر فريق الدفاع المدني كان غائبًا عن الوعي وتعلوه الحجارة والردم.

أدخل حسن إلى مستشفى شهداء الأقصى وسط القطاع بين الحياة والموت لا يتحرك من جسده سوى يده اليمنى ورقبته، وتغزوه الآلام.

"عندما وضعت يدي على صدري شعرت بوجود فراغ وكسور وشيء غريب"، يتابع حديثه.

خضع الشاب لفحوصات شاملة، وتوصل الأطباء إلى إصابته بكسر في فقرتين بالعامود الفقري، وكسور في أضلاع القفص الصدري والحوض والقدم اليسرى.

لكن المفاجأة كانت بفقدانه الذاكرة لدرجة لم يتعرف معها على أبيه أو أحد من أهلهظنوا أنه يمازحهم تارة وأخرى نظروا بصدمة إلى الطبيب، قبل أن يسترد ذاكرته الغائبة لأسبوعين.

انعدمت حركة حسن كليًا في الجزء السفلي من جسدهعانى الشاب من رضوض كثيرة وامتلأ ظهره بالحجارة لأسبوعين دون أن يسمح لأحد بتبديل ملابسه أو المساس بسريره على وقع الألم الذي لم يوقفه حتى المسكنات.

وزاد قهره اضطراره إلى كتم السعال لئلا يشتد ألمه رغم حاجته لإخراح دخان أسلحة الاحتلال من صدره.

قرر الأطباء تحويل حسن للعلاج في الخارج منذ 25 ديسمبر لإجراء عملية "تثبيت فقرات" لكن حلمه في تحقق ذلك يراوح مكانه مع محدودية المصابين الذين يتمكنون من السفر وسط حرب الإبادة الجماعية.

في منتصف يناير انتقل حسن إلى مستشفى أبو يوسف النجار في رفح، بعدما هاجم الاحتلال المستشفى الذي كان يمكث فيه.

أكثر ما يهون على حسن مصيبته، هو رضا خطيبته بواقعه الجديد، ووقوفها إلى جانبه، متفقة معه على إكمال حلمهما.

يرفع رأسه نحو السقف، كأنه يحرر نظراته ويطلقها في عالم الأماني التي يتوق لو أنها تتحقق.

طموحات حسن المتخصص بالمحاسبة ببيت مستقل ووظيفة ثابتة وزوجة وأولاد باتت في مهب الريح بعد إصابته.

"أنا حاليا تحت الصفر، من سيبني لي بيتا؟ من سينفق علي؟ من سيشغلني بعد الإصابة؟" يتساءل بحسرة.

وما يخطف كل يوم شيئًا من "روح" حسن، هو أنه "أسير" جدران المستشفى، لا يستطيع مغادرتها، ولا أمل له بالشفاء إلا بالتمكن من السفر.

ومع كل ذلك، تمضي الساعات والأيام ثقال على حسن ومعه آلاف مصابون آخرون يرقبون مصير شبابهم الذي اختطفته آلة حرب الاحتلال العدوانية.