يلاحظ المتابع لنقاشات الشباب العربي واهتماماتهم في الأشهر الستة الماضية، أنه طرأت تحوّلات كبيرة على مستوى المفاهيم والهموم لديهم.
فلم تعد الرموز الملهمة لأغلبهم أسماء أعجمية دخلت التاريخ؛ بسبب مهاراتها الرياضية أو حضورها الهوليودي، بل صار ملهموهم أسماءً عربيةً يحمل أصحابها أسلحة خفيفة، يتصدون لأعتى تحالف عسكري في العالم، ويلحقون به الهزيمة تلو الأخرى لأكثر من نصف عام.
مظاهر هذا الاحتفاء تتجلّى في اهتمام الشباب العربي والإسلامي بأخبار وسير المقاتلين في حاضر وتاريخ القضية الفلسطينية من المؤسسين الأوائل، ومن أمثال: "المقاتل الأنيق"، و"الشهيد الساجد"، وصاحب مقولة "حلل يا دويري"، وكلمات أبي عبيدة وكوفيته، وصور محمد الضيف، ورسائل السنوار، ونمط شخصيته الأسطورية، وبسالة مجاهد بركات المتصدي لجيش كامل مدة تسع ساعات.
كل هؤلاء مع بقية المقاتلين الفلسطينيين المشهورين والأخفياء أعادوا الأمل لملايين الشباب العربي الذين ودعتهم شمس السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وهم ينتظرون يومًا جديدًا من أيام الانكسارات العربية المعتادة، قبل أن يحمل لهم فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول بشريات العبور الكبير، والأمل الواعد بالتحرر.
شعوب تنجب أبطالها
الرمزية القتالية لقادة المقاومة الفلسطينية ذكّرت الشعوب العربية التي حملت السلاح ضد حكامها إبان ثورات الربيع العربي بأبطالهم ورموزهم، وهم في الغالب شباب مقاتلون احتفظت بهم الذاكرة الجمعية وأنزلتهم منازل القادة الخالدين، وباتت أسماء أصحابها وقصص بطولاتهم تتربّى عليها أجيال فتحت عيونها على واقع تقول لهم تجلياته المحيطة بهم وتجاربه المريرة؛ إن أضمن طرقه إلى الحقوق تلك التي تتخذ من مبدأ عمرو بن براقة الهمداني شعارًا يهديها السبيل.
ففي سوريا يستلهم شباب المخيمات والنزوح والمنافي مُثلهم الثورية وقيمهم السياسية من أمثال الشهداء الأبطال عبد الباسط الساروت، وعبد القادر الصالح (حجي مارع)، ويوسف الجارد (أبو فرات)، وحسين هرموش وزهران علوش وحسان عبود (أبو عبد الله الحموي)، وحتى من غير العسكريين، مثل إبراهيم القاشوش وغياث مطر.
وفي ليبيا التي كان شبابها يتسابقون إلى الموت وكأنهم في لعبة أثيرة، يستذكر أهلها أسماء زادت المشهد الليبي المحتدم حينها وهجًا، وأبرز هؤلاء القائد الشهيد وسام بن حميد الفتى العصامي والميكانيكي المحترف الذي ترك ورشة صناعته، وحمل السلاح دفاعًا عن مدينته الأثيرة بني غازي؛ لتبرز مواهبه القيادية الفذّة التي لم يزل يعلو في درجاتها حتى تجاوز تأثيره وأثره ليبيا يوم نعته كتائب الشهيد عز الدين القسام كاشفة عن جهوده الكبيرة في تزويد المقاومة في غزة بالسلاح، رغم أنف حراس الحدود، وحماة الكيان من أنظمة الثورة المضادة.
برز مع الشهيد وسام قادة آخرون بارزون، مثل الشهداء راف الله السحاتي، وسالم دربي، وناصر العكر، والقادة عبد الحكيم بلحاج، وصلاح بادي، وزياد بلعم، وإسماعيل الصلابي، وعبد الوهاب قايد، وغيرهم الكثير ممن قادوا جموع الشباب الليبي حتى نالوا ثأرهم من النظام الذي كتم أنفاسهم أربعة عقود، شردهم خلالها وسجن ونفى وقتل كثيرًا منهم، وسجلوا بشجاعتهم وإقدامهم نماذج ملهمة للشباب الليبي الجسور.
ملامح الاحتفاء بالفروسية
رغم ضراوة الثورة المضادة وحربها الضروس على أحلام التحرر العربي، فإن الكثير من قادة الثورة الليبية والسورية ما زالوا يحمون مدنهم التي حرّروها ببنادقهم، ويتنسمون فيها نسيم الحرية الذي حرموا منه طويلًا.
كما يدافع أبطال المقاومة الفلسطينية عن المسرى والمقدسات بشجاعة وإقدام، وهي حالات تبدو ملهمة في عدة مناطق عربية أخرى، يحتدم فيها الصراع بين الحالمين بالحرية ودحر الاستبداد، وبين وكلاء الثورة المضادة المبشّرين بالاستسلام للهيمنة الصهيونية العالمية تحت مسمى العائلة الأبراهامية المزيفة.
احتفاء الشباب العربي بقيم الفروسية ليس حدثًا عابرًا ولا طارئًا في منطقتنا، فطالما كان للفرسان لدى العرب في الجاهلية والإسلام مكانة خاصة، ورمزية ألهمت الشعوب في معاركها التحررية من الغزاة منذ طلائع الاستعمار وحتى معركة "طوفان الأقصى" الجارية، وهو احتفاء يحمل عدة رسائل وملامح، جديرٌ بالباحثين والكتاب وراصدي التحولات في المنطقة الوقوف عندها.
- أول ملامح هذا الاحتفاء: أن زمن التأثر بالزعيم المنقلب ذي النياشين الجوفاء والخطب الرنانة والوعود الزائفة قد انتهى، فجنرالات الهزائم الذين استغفلوا الشعوب برهة من الزمن بادعاء بطولات وهمية كشفت تجارب الحروب أن استئسادهم على شعوبهم فقط، وأنهم لا طاقة لهم على مواجهة الأعداء الحقيقيين.
وزاد هذا الأمر جلاء ورسوخًا خذلانُ الحكام لغزة في أغلب حروبها، وهي تحاصر وتباد، وتتصدى رغم ذلك ببسالة للغزاة، بينما رؤساء يقودون دولًا بإمكانات هائلة لا يستطيعون مجرد التنديد الجادّ. - ومفاد الملمح الثاني: أن عصر المستضعفين قد أطلّ، وهو عصر ينتزع فيه الفرسان مكانتهم بتضحياتهم وجسارتهم وسعيهم لكرامة شعوبهم الطامحة للعيش بإباء كما تعيش سائر الشعوب الحرة التي تختار طريقة حكمها ومن يحكمها، وهو أيضًا عصر لا تبيت فيه أمّ عربية تنتظر ابنًا اختطفه جلاد جبان، ورمى به وراء الشمس؛ لأنه تظاهر دعمًا لفلسطين أو طالب بحق إنساني بسيط.
- الملمح الثالث: أنّ فرسان ملاحم التحرر العربي ينطلقون في رؤاهم التغييرية من مبادئ تمزج الدين بالوطن، فيمنحهم الدين دافعًا علويًا مقدسًا، ويعطيهم الوطن مدى محددًا يتحركون فيه، ويريحهم من المغامرات غير المحسوبة في مواجهة العالم واستعدائه لحظة ضعف، كما أنهم مقاتلون من الناس ينتمون إلى حواضن اجتماعية أنجبتهم ومستعدة لدفع فواتير حمايتهم والدفاع عنهم.
- الملمح الرابع: إعلاء قيمة الحرية ومركزية الكرامة لدى جيل الفروسية الجديد من الثوّار، فمن مظاهر ذلك عندهم أن قرية محررة خير عندهم من مدينة ينتهك عرضَها مستبدّ، ومدينة حرّة خير من دولة يتحكم فيها طاغية سفاح.
فهذا الجيل ينطلق من مسلمة بسيطة، وهي أن الأنظمة التي لا ينال إلا ضررها لا خير فيها، وأن الأوهام التي حكمت الشعوب دهرًا طويلًا باسم الوحدة مجرد مخدِّرات يُطيل بها الطاغية أمد تحكمه، ومن ألقى نظرة على تجربة غزة، والشمال السوري، والغرب الليبي، فهم معادلة الفرسان. - والملمح الخامس، الأهم في مسيرة الوعي التحرري للفرسان: هو أنّ الشعوب العربية تجاوزت هزائمها الفكرية والنفسية.
الهزائم النفسية في تاريخ الأمم
تجاوُز الشعوب العربية للهزيمة النفسية التي مني بها المسلمون قرونًا طويلة، في غاية الأهمية في مسيرة التحرر العربي، فالشعوب حين تُسيرها ردّات الفعل المنهزم، تبقى أسيرة أوهام العجز والقنوط.
وهذا ما وقع للمسلمين عقب هزيمة ثورة الفقهاء بقيادة عبدالرحمن بن الأشعث في القرن الثاني الهجري، فبعد تلك الهزيمة حدثت بدع مهلكة في التدافع السياسي، ومنها الإرجاء، كما قال الإمام المحدث قتادة بن دعامة السدوسي: "إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث"، (سير أعلام النبلاء -5/ 275 ط الرسالة).
والإرجاء مذهب عقدي يريح الناس من الأعمال بما فيها مشقة تغيير منكر الحاكم، إذ لا يشترط عند المرجئة العمل لحقيقة الإيمان، كما أنه لا تضر عندهم مع الإيمان معصية، ومن هذه الجهة أحب الحكام الإرجاء حتى قيل: "الإرجاء دين الملوك".
فقد روى ابن عساكر من طريق النضر بن شميل، قال: دخلت على المأمون فقال: كيف أصبحت يا نضر؟ فقلت: بخير يا أمير المؤمنين. فقال: ما الإرجاء؟ فقلت دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقصون به من دينهم، قال: صدقت"، كما في البداية والنهاية لابن كثير.
ومن أراد فهم خطورة الهزائم النفسية على الشعوب يتأمل في عبودية الألمان لليهود؛ بسبب العقدة التاريخية من المحرقة؛ فجبروت العقل الألماني في الفكر والفلسفة والسياسة والفن والصناعة لم يستطع تجاوز تلك المذبحة، فظلت ألمانيا أسيرة تلك العقدة تدفع التعويضات المضاعفة للكيان الصهيوني، وترتعد فرائس برلين حين يبكي طفل مدلل في تل أبيب، والعجيب أن يهود ألمانيا أنفسهم بدؤُوا "يشكون من مبالغة ألمانيا في الدفاع عن إسرائيل"، وفقًا لتقرير في مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية يناير/كانون الثاني الماضي.
مسارات التحول والتغيير في تاريخ الشعوب التي عانت الاستبداد ونهب المقدرات تأخذ وقتًا طويلًا تتشكل فيه قناعاتها ورؤاها وتجاربها حتى إذا بلغ الكتاب أجله امتطى الفرسان صهوات أحلامهم ليُسرعوا طلوع الفجر، كما فعل الشعب السوداني في هبّته الأخيرة ضد تكالب الثورة المضادة عليه، وعلى بلاده.
وأعتبرُ كل التقلبات والتدافعات العربية منذ انطلاق الربيع العربي في تونس إلى فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول مرحلة من تلك المسارات التغييرية التي لن تتوقف حتى تتحرر الدول العربية من التبعية المقيتة لمخلفات الاستعمار الغربي، وتملك الشعوب أمرَ نفسها.