بينما يرافق إبراهيم الحو (53 عامًا) نجله صلاح في رحلة العلاج بعد الإصابة برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي، لا يكف عن السؤال عن نجله خالد الذي بات في عداد مفقودي حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.
لقد كان الشقيقان الغزِّيان ضحايا الحرب الممتدة للشهر السادس وما رافقها من سياسات إسرائيلية أجبرتهما على الانخراط في معركة انتزاع رغيف الخبز.
عندما تنظر إلى حال صلاح وهو يتلقى الرعاية الصحية؛ تدرك حجم الخطر الكبير الذي داهم هذا الشاب البالغ (23 عامًا) ونجا منه بأعجوبة وجعله حبيس أسرَّة العلاج في مجمع الشفاء الطبي.
وكان صلاح قد نجا من مجزرة ارتكبها جنود الاحتلال عند ما يعرف بمفترق "الكويتي"، جنوب شرق مدينة غزة.
في اليوم الأول من شهر رمضان وعندما كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة مساءً، انطلق صلاح ومجموعة من الأصدقاء من مخيم جباليا، شمالي القطاع، باتجاه مفترق الكويتي الواقع على شارع صلاح الدين.
مضت ساعتان حتى وصل الأصدقاء ومكثوا جميعًا قرب المفترق الذي سبقهم إليه آلاف المواطنين في انتظار الشاحنات المحملة بالدقيق والمساعدات الإغاثية.
ومنذ بضعة أشهر اعتاد المواطنون في شمالي القطاع على هذا المشهد في مكانين منفصلين، الأول عند مفترق النابلسي الواقع على شارع الرشيد غرب غزة، والآخر عند مفترق الكويتي على شارع صلاح الدين، شرقًا.
وكلا الشارعين يربطان محافظات قطاع غزة ببعضها، امتدادًا من شماله حتى جنوبه.
لكن رحله البحث عن الدقيق والمواد الغذائية بفعل فصل جيش الاحتلال محافظتي غزة والشمال عن باقي محافظات القطاع بحواجز عسكرية محصنة أنشأها قرب المفترقين، تحولت إلى عنوان للمأساة والموت بالنسبة للمواطنين الساعين لتأمين قوت أبنائهم.
"لم يعد يهمني شيء أكثر من تأمين كيس طحين (دقيق).." قال صلاح لموقع "فلسطين أون لاين" وهو ممدد على سرير في قسم الاستقبال بمجمع الشفاء، ويحيط به والديه وأصدقائه.
وأضاف: عندما وصلت إلى مفترق الكويتي أول أيام رمضان لم تكن المرة الأولى الذي أذهب فيها، لكنها المرة الأولى التي أحصل فيها على كيس طحين".
"قاتلت وجازفت بنفسي حتى أحصل على ذلك الكيس.. لكن فجأة اقتربت دبابات الاحتلال وأطلقت الرصاص بكثافة نحونا".
عندها لم يتمالك صلاح قواه ووجد نفسه ملقى أرضًا لأكثر من ساعتين وهو ينزف الدماء من ساقيه اللذين أصابتهما رصاصة من العيار الثقيل وفتكت بهما وأحدثت فيهما خرابًا كبيرًا قبل أن يتمكن مجموعة من الشبان من نقله إلى مجمع الشفاء بواسطة عربة "توك توك".
وبينما يرقد صلاح ملقىً على ظهره وتغطي الضمادات أجزاء واسعة من ساقيه لجأت طبيبة شابة إلى ضخ حُقن المضاد الحيوي في الوريد الأيسر لتفادي أي التهابات قد تصيب جروحه التي لم تندمل بعد.
ورغم نجاته من الموت بأعجوبة، إلا أن الشعور بالخوف والقلق لم يفارق صلاح ووالديه وأفراد عائلته أيضًا، إذ إنهم لا يعرفون شيئًا عن شقيقه خالد الذي فقدت آثاره منذ ذهابه إلى مفترق النابلسي.
يقول صلاح: إن شقيقه البالغ (27 عامًا) خرج من بيته يوم 6 مارس/ آذار الحالي متجهًا إلى مفترق النابلسي بهدف جلب الدقيق لأفراد عائلته.
لكن خالد لم يرجع منذ ذلك الحين، ولم يعد لعائلته أدنى فكرة عن مصير نجلها، ما جعلها في حيرة من أمرها.
وما يثير قلق العائلة بشدة تكرار جرائم جيش الاحتلال بحق المدنيين الساعين للحصول على رغيف الخبز عند مفترق النابلسي، حيث أوقع في صفوفهم مئات الشهداء والجرحى.
وفجر الخميس 29 فبراير/ شباط الماضي، استشهد أزيَّد من 115 مواطنًا إثر مذبحة نفذها جنود الاحتلال بحقهم قرب النابلسي، الذي كان يعد أحد أشهر محلات الحلويات في مدينة غزة.
وقال صلاح: لا زلت متيقنًا أن شقيقي على قيد الحياة.
بينما قال والده لـ"فلسطين أون لاين": إن خالد سيعود.. أتوقع ذلك في أي لحظة.
وفي جرائم مشابهة، فقد مئات المواطنين عند مفترقي النابلسي والكويتي، وكان مصيرهم إما الاعتقال والزج بهم في سجون الاحتلال أو إجبارهم على النزوح إلى جنوبي القطاع أو استشهادهم وعدم تمكن فرق الإسعاف والطوارئ من انتشالهم.
لكن خالد؛ حتمًا ستنتهي حكاية مصيره المفقود.