لطالما حيرت قضية الحرية الفلاسفة والناس عموماً عبر العصور. بل إن البشرية خاضت حروباً طاحنة من أجل هذه القضية تحديداً، فعلى النطاق النضالي حركات التحرر عبر التاريخ كثيرة، والقادة الذين قادوها بغية تحرير الأرض والإنسان كثر، وربما تقف المقاومة الفلسطينية اليوم والشعب الفلسطيني من ورائها شاهداً حياً على السعي لتحقيق الحرية والاستقلال ضد أحد أهم معاقل الاستبداد والفكر الاستعماري، لأنه لا معنى للفرد أو المجتمعات دون الحرية.
إلا أن هذه القضية فلسفياً تتأرجح كون المرء حراً بشكل مطلق أم أنه يتمتع بحرية مقيدة، مفهوم لطالما أثار جدلاً في أوساط الفلاسفة فيما مضى وفي عصرنا الحديث. فهناك مدرسة تقول بأن الإنسان حر في أفعاله وتصرفاته وأخرى تقول إن الإنسان مقيد سلوكياً؛ ما يعني أنه مقيد ولا يمتلك الحرية المطلقة. بمعنى آخر هل إذا قمت بما أريد وتصرفت كما أشاء هذا دليل على حريتي؟
بحسب أفلاطون إن الإنسان يفعل ما يشاء ويريد؛ لأنه حر حرية مطلقة انطلاقاً من قدرته وإرادته على الاختيار بين ما هو ممكن وغير وممكن، حيث إنه اعتبر حرية الاختيار مبدأ مطلقاً وثابتاً لا يفارق الإنسان في الزمان والمكان. إلا أن أنصار المدرسة المعتزلة يقولون بأن الإنسان يختار بين الفعل والترك لأنه حر، وأفعاله صادرة عنه. ولكن أيضاً هناك قول الحق سبحانه وتعالى والذي يسمو فوق الجميع في قضية الحرية، حيث يقول عز وجل: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"، ويقول أيضاً: "ومن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر". "ولا إكراه في الدين" وهناك مقولة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". وعليه هل الإنسان فعلاً يتمتع بالحرية المطلقة لاتخاذ قراراته والتصرف كما يشاء بطبيعة الحال ضمن القوانين والتشريعات، أم أنه مقيد باللاوعي دون أن يدرك ذلك؟ وإذا ما كان مقيداً باللاوعي فهل هذا يفقده حرية الاختيار أو الترك؟
الحرية مفهوم مطلوب عالمياً، ويعتز به الناس في جميع أنحاء العالم. البعض يحتفل بها بفخر كم هو الحال في الغرب، بينما يتوق إليها آخرون كما هو الحال في الدول النامية. ولكن قبل أن نواصل، دعونا نتوقف ونتأمل في معنى هذه الكلمة ودلالاتها. وفقاً للتعريف المبين في إعلان حقوق الإنسان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الفرنسية لعام 1789، فإن الحرية تعني عدم الخضوع إلا للقيود التي يحددها القانون لضمان الاعتراف بحقوق الآخرين وحرياتهم واحترامها، فضلاً عن تلبية المتطلبات العادلة للأخلاق والنظام العام والرفاهية العامة في مجتمع ديمقراطي. وهذا التعريف، على الرغم من اتساعه، يؤكد أن الحرية تسمح للأفراد بالتصرف وفقاً لإرادتهم الخالصة، واتخاذ القرارات المتعلقة بالجوانب الأخلاقية والمادية دون قمع أو إكراه من قبل الآخرين.
ومن الأهمية بمكان التعمق في مفهوم "الإرادة الخالصة" وتأثير العوامل الخارجية على اختيارات الفرد. وفي حين أنه من الواضح أنه لا ينبغي لأي كيان خارجي أن يتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر أو يمارس التأثير على قرارات الشخص من خلال الإكراه أو التهديد، يجب علينا أن ننظر في طرق أخرى أكثر دقةً يمكن من خلالها المساس بحرية الاختيار. يلعب التلاعب بالأفكار، وفرض أيديولوجيات معينة، والتأثير المنتشر لوسائل الإعلام الرئيسية أدواراً مهمة وغير مسبوقة في تشكيل الرأي العام حول مختلف القضايا. وتظهر الأمثلة الأخيرة، مثل الحملات الانتخابية أو الصراع الروسي الأوكراني، أو الحرب الإسرائيلية على غزة مؤخراً كيف يمكن لوسائل الإعلام، بجميع أشكالها، تجريد الأفراد من حريتهم دون وعي؛ من خلال التلاعب بأفكارهم وتوجيههم نحو وجهات نظر محددة سلفاً.
لنأخذ على سبيل المثال الحملات الانتخابية، بأشكالها المتلاعبة بالفكر، تبنى بطريقة لتسيطر على عقول الناس وتحد من حريتهم في الاختيار من خلال إخضاعهم لحملات انتخابية ودعائية موجهة ومكثفة لمدة زمنية طويلة، مما يؤدي إلى الخضوع باللاوعي. إن أخذ لحظة من الصمت الانتخابي يصبح أمراً ضرورياً للناخبين للتعافي من التأثيرات الخارجية واستعادة الوضوح في عملية صنع القرار. وفي سياق متصل، في عالم الجريمة، تطرح أسئلة حول مفهوم الإرادة الحرة. هل القاتل وحده هو المسؤول عن أفعاله، أم أن هناك تأثيرات خارجية تلعب دورها؟ ما هو الدور الذي يلعبه المحرِّض على الجريمة في إثارة الفعل؟ فهل غياب التورط الجسدي يعفي المحرض من المسؤولية؟ تسلط هذه الأسئلة الضوء على الطبيعة المعقدة للإرادة الخالصة والتعقيدات المحيطة بالمؤثرات الخارجية.
حقيقة العالم كما تعكسه مرآة غزة.. هل الحرية مجرد خديعة في عالم اليوم؟
في بعض الدول العربية، تسن الحكومات قوانين جزائية لتجريم ما قد ينشره الأفراد عبر منصات التواصل الاجتماعي وما يعد محاولة لترهيبهم عن التعبير عن آرائهم وانتقاد مسؤولين أو استراتيجيات حكومية، باستثناء النقد المشروع دون التشهير أو القدح والذم، وهو ما تشير إليه مؤسسة إنفاذ القانون على أنه "الاغتيال السياسي والشخصي للأفراد". وبالتالي فإن تغريدة واحدة يمكن أن تؤدي بصاحبها إلى السجن لسنوات. واليوم، لا يختلف الأمر في الغرب كثيراً عما هو عليه عربياً، فالقوانين في الولايات المتحدة وأوروبا تسن لمنع بل تجريم انتقاد إسرائيل والسعي لمقاطعتها من جانب أو تأييد القضية الفلسطينية من جانب آخر، كما رأينا مؤخراً إبان عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة. ففي 3 يوليو/تموز 2023 على سبيل المثال تبنى البرلمان البريطاني قانوناً يعاقب المقاطعة للاحتلال ويخص بشكل مباشر سياسة إسرائيل. ولا يعد هذا الأمر بمعزل عن دول أوروبية أخرى، حيث تبنت حكومات ألمانيا وفرنسا وغيرها ذات النهج.
في ألمانيا صادق أعضاء البرلمان في 17 مايو/أيار 2019 على قرار غير ملزم بإدانة مقاطعة إسرائيل، واصفين ما تقوم به المقاطعة بالمعادية للسامية ومذكرين في ذلك بالدعوة لمقاطعة اليهود في الحقبة النازية. ينص القرار على أن ألمانيا "ستعارض بشدة" كل الجهود المبذولة لتشويه صورة اليهود أو التشكيك في "أحقيّة الوجود أو حق دولة إسرائيل اليهودية الديمقراطية في الدفاع عن النفس".
وبطبيعة الحال هناك عراب هذه السياسات مجلس النواب الأمريكي الذي صادق على قرار غير ملزم ينص على أن "معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية"، أضف إلى ذلك قانون منع المقاطعة لإسرائيل (بي دي إس) الذي أيضاً قد يعرضك للمساءلة القانونية. في الولايات المتحدة المواطن الأمريكي يمكنه انتقاد حكومته بكل الأشكال، لكنه إذا ما انتقد حكومة أجنبية – ونشير هنا إلى "إسرائيل" – فإنك في هذه الحالة قد تتم ملاحقتك قانونياً وتجريمك. وهنا يبرز السؤال الأهم: أين ذهبت حرية التعبير وإبداء الرأي والانتقاد المصونة في دساتيركم؟ وهل ذهبت الإرادة الخالصة أدراج الرياح
ما سبق من سياسة غربية يقودنا إلى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة اليوم لنتمعن بالسردية الإعلامية الغربية لشيطنة المقاومة وسكان القطاع. وعليه نعود مرة أخرى لمفهوم "الإرادة الخالصة".. هل بات المتابع للأحداث في غزة يتمتع "بإرادة خالصة" لتشكيل رأيه؟ ألم يتبنى الإعلام الغربي سردية الاحتلال وانطلق بها سرعة الغرب يبثها كالسم في عقول متابعيه؟ ألا يعد هذا سلباً للحرية وتشكيل اللاوعي؟ ألم يتبنّ الإعلام الغربي إدانة حماس كدستور للبدء بأي لقاء صحفي؟ وكأنهم يذكروننا بالرئيس الأسبق جورج بوش الابن "أنتم أحرار لكن إما معنا أو ضدنا" إبان أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ألا تعد المقاومة شكلاً من أشكال السعي للحرية؟ ألا تعد سرديتها المضادة للغرب محفزاً للبحث عن المصداقية حول ما يدور من أحداث وبطبيعة الحال الوصول "للإرادة الخالصة" لتشكيل رأيك الخاص كمتابع؟ ألا يعتبر ما قامت وتقوم به المقاومة الفلسطينية ربيعاً عربياً بدأ قبل 75 عاماً، وما زال مستمراً حتى بعد أن وئدت ثورات الربيع العربي؟
الحرب الدائرة في غزة لم تفضح للعالم الوجه الحقيقي لاحتلال نازي وحشي فحسب، لكنها أيضاً كشف وجه الغرب للغرب نفسه قبل أن تفضح عورته للعالم بأسره وتعريه من أكذوبة الحريات وحقوق الإنسان وكل الأفلاطونيات التي صدعوا رؤوسنا بها، بل تضع كل واحد منا أمام نفسه متسائلاً عن حقيقة حريته هل نحن أحرار حقاً، أم أننا عبيد نعيش في فقاعة تسمى الحرية؟
كان يُنظر إلى الربيع العربي عام 2011 على أنه ثورة شعبية لاستعادة التحرر من الاستبداد. لكن الثورات المضادة سرعان ما اجتاحت هذه الحركات، وفرضت قوة أقوى من إرادة الشعب. فهل تغلبت إرادة الأنظمة الاستبدادية على إرادة الشعوب؟ وهل كان الخوف والرغبة في مظهر من مظاهر السلام يفوق قيمة الحرية لدى هذه الشعوب؛ مما أدى إلى التخلي عن هذا الحلم الأسمى؟ وهل أصبح الأمل في حياة أفضل هو البوابة التي سيطرت من خلالها الثورات المضادة؟ وهل يكافح العرب من أجل فهم الجوهر الحقيقي للحرية، ونيلها، أم أنهم يضحون بها من أجل ما يظنون أنه "طريق السلامة"؟. هل هذه المفاهيم نتعلمها عندما نصبح بالغين أم أنها متأصلة فينا تربية وثقافة؟ هل نحن العرب جاهزون لأن نكون أحراراً وناضجين بما يكفي للتعاطي مع الحريات بمفهومها العميق؟ أم أننا نأخذ من مفهوم الحرية القشرة والمذاق الذي يناسبنا ونطرح الباقي أرضاً؟
ليس المقصود من هذه الأسئلة إثارة العنف أو القلاقل، بل تحفيز التأمل والتفكير. في الغرب، يتم تدريس الحقوق المدنية في المناهج المدرسية، ويتم التوسع فيها تدريجياً دون خوف من تعدي الحكومات على حقوق المواطنين. ولا ينظر إلى هذه الثقافة على أنها تهديد للأمن القومي، أو أداة للاغتيال السياسي كما يراها ساستنا، بل على أنها طريق لعيش الحرية كأسلوب حياة، حرية مكتسبة وبناءة لا تؤدي إلى الدمار. وفي مثل هذه البيئة، لا تحتاج الدولة إلى تذكير مواطنيها بواجباتهم؛ لأن أداء تلك الواجبات يصبح نتيجة طبيعية لالتزامهم تجاه الوطن. ولا يكون هناك حاجة لربيع عربي أو إفرنجي.
وللتوضيح حتى لا يفهم ما كتبت خطأ، ليس من الضروري أن نستمد فهمنا للحرية من الغرب، خصوصاً أن الإسلام لم يبقى جانباً من الحرية إلا ومنحها للبشرية لكننا اخترنا تجاهلها، "ودخلنا جحر الضب". ومع ذلك، فإن التعلم من أولئك الذين كافحوا للحصول على حريتهم يمكن أن يكون مفيداً، لاستخلاص العبر منها والتعلم من الصواب والخطأ. لكن وما يكاد يكون أكيداً أن الحرية لا تمنح بل تنتزع ويدفع من أجلها الغالي والنفيس، هي لحن تعزفه وتغنيه الشعوب متخطية الخوف من القمع والاعتقال والدمار والدم، كما يغنيه قطاع غزة اليوم.. فمتى سيكتمل لحننا العربي لنصبح غزيين أحراراً؟