تحل علينا الذكرى الثلاثون لـ"اتفاقية أوسلو" التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية في الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1993 مع العدو الصهيوني، بعد انتفاضة الحجارة، تلك الانتفاضة المباركة التي زلزلت الأرض من تحت الكيان المزعوم وارتعب خوفاً وذعراً، فجرى وهرول لعمل اتفاقية مسمومة لحماية نفسه، وبموجبها تم الاعتراف بالكيان الصهيوني وأُسقط بند الكفاح المسلح لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر من ميثاق المنظمة، مقابل سلطة وهمية لم تكن أكثر من تنسيق أمني بينها وبين العدو الصهيوني الذي وعد بإقامة دولة لم تر النور، بل رأت مزيداً من سرقة أراضي تلك الدولة المزعومة ونهب خيراتها وإقامة المستعمرات (المستوطنات) عليها، حتى تقلصت مساحة الأراضي المتبقية للفلسطينيين إلى أقل من عشرين في المائة من أرض فلسطين التاريخية!
كما أدت اتفاقية أوسلو لمزيد من القتل والاعتقالات لأبناء الشعب الفلسطيني المناضل تحت ذريعة التنسيق الأمني مع سلطة الاحتلال، فكانت انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 2000 التي أعادت روح المقاومة للشعب الفلسطيني؛ برعاية الزعيم الراحل ياسر عرفات الذي عاد من أمريكا محبطاً يائساً بعد اجتماع كامب ديفيد مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني "يهود باراك" برعاية الرئيس الأمريكي "بيل كلينتون"، الذي أصر أن يكون كلبه بجواره مما أغضب عرفات لما فيه من إشارة أو معنى يسيء إلى شخصه بعدما تأكد له أنه لا جدوى من "اتفاقيات سلام" مع الكيان الصهيوني، وأنها كلها كانت أوهامًا سرعان ما تبخرت وطارت في الهواء بعد أن عُقدت عليها آمال عريضة بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم.
آمال عاش عليها الفلسطينيون على مدار سبع سنوات منذ اتفاقية أوسلو، فلما استيقظوا وجدوها أضغاث أحلام وأن الواقع يحتم عليهم العودة للنضال لتحرير فلسطين، فقاد الراحل عرفات بنفسه الانتفاضة، لتبدأ مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني لم تنته بحصار عرفات وقتله بالسم عام 2004 عقاباً له على انتفاضة الأقصى، ولم تتوقف بانسحاب العدو الصهيوني من قطاع غزة تحت وطأة المقاومة، فما كان من الصهاينة إلا الانتقام منها فاغتالوا كبار قادتها؛ بينهم الشيخ القعيد أحمد ياسين الذي أيقظ الأمة بعد سبات طويل، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي وآخرون، وشنوا ست حروب ضروس على القطاع وفرضوا حصاراً شاملاً براً وبحراً وجواً على الشعب الفلسطيني في غزة بعد فوز حماس في الانتخابات النيابية عام 2007.
اقرأ أيضًا: هل اتفاق أوسلو مشروع تصفوي؟
اقرأ أيضًا: الموبقات السبع لاتفاق أوسلو
ولكن كل هذا لم يفت من عضد المقاومة ولم ينل من عزيمتها، ولم يضعف من قوة الشعب الفلسطيني المستعد للتضحية من أجل تحرير أرضه، لقد تحمل أعباءً لا يمكن أن يتحملها أي شعب في العالم وعانى الكثير من أجل استقلاله وكرامته وعزّته.
فشل العدو الصهيوني في تركيع الشعب الفلسطيني في غزة، كما فشل في هزيمة المقاومة واستسلامها ونزع سلاحها في كل حروبه معها.
ولقد شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة في العامين الماضيين عودة العمليات المسلحة، مع ظهور جيل جديد مقاوم للاحتلال في الضفة الغربية لم يعش أوسلو ولا سنينها، ولكنه يريد أن يحرر وطنه من المحتل الغاصب ويعيش حراً كريماً على أرضه، لقد سطر أبناء مخيم جنين أروع أسطر المقاومة في سجل التاريخ، ما يزعج الصهاينة ويجعلهم يعيشون رعبًا دائمًا.
كل هذا يؤكد أن القلب الفلسطيني لا يزال حياً، ينبض بالحرية ويعشق الحياة بكرامة وعزة، ولم يشخ كما شاخ قادته واستسلموا للعدو الصهيوني كأمر واقع يجب التعامل معه والتعاون والتنسيق الأمني معه لكبح جماح المقاومة، بل هو جيل جديد عاقد العزم على النضال من أجل تحرير فلسطين، وأنه سوف يأخذ منحى مختلفًا، وقد يكون ذلك بمثابة تعويض عن فصائل النضال التاريخية.
هذه الأجيال هم أحفادُ أحفادِ الفلسطينيين الذين طُردوا من أرضهم وهُجروا بعيداً عن فلسطين ولم تتكحل عيونهم برؤية فلسطين والعيش على أرضها بين ربوعها وسهولها ووديانها وجبالها، ولكنها في قلوبهم يعيشون فيها وتعيش داخلهم، في وجدانهم وفي فكرهم، أرضهم التي لن يتخلوا عنها ولتسقط مقولة القادة الصهاينة القدامى أمثال ديفيد بن غوريون، مؤسس الكيان وأول رئيس له، الذي قال "الكبار سيموتون والصغار سينسون"، حقاً مات الكبار ولكن بعد أن سلموا مفاتيح العودة للصغار وحمّلوهم الأمانة فرفعوا الشعلة من بعدهم.
لا شك أن الأمل معقود على هذا الشعب الفلسطيني العظيم، فهو شعب لا يموت ولا يُهزم ودائماً وأبداً يسقط كل الحسابات ويغير كل المعادلات بإبداعاته وابتكاراته في وسائل المقاومة والنضال.
في الذكرى الثلاثين لمعاهدة أوسلو الملعونة، تعود إلى ذاكرتنا نكبة الأمة التي بدأت عام 1948 وتتوالى تبعاتها حتى يومنا هذا، فنتذكر ذلك اليوم المشؤوم الذي انتزع فيه قلب الأمة العربية واغتصبت فيه أرضنا في فلسطين أمام أعين العالم أجمع الذي باركه بل وسارع من خلال الأمم المتحدة، التي أنشئت خصيصاً لتحقيق أهداف الدول الكبرى المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية، للاعتراف بهذا الكيان الغاصب الذي زُرع على أرضنا العربية، وكان أول المباركين والمعترفين به الاتحاد السوفييتي تلته الولايات المتحدة الأمريكية، وليس العكس كما يظن الكثيرون... لقد تكالب الشرق والغرب على طعن الأمة في ظهرها، القريب منها قبل الغريب.
لم يكن زرع هذا الكيان الصهيوني وليد ذلك اليوم البغيض بل يعود لقرن من الزمان، منذ وعد بلفور المشؤوم، الذي أصدرته الحكومة البريطانية بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين العربية، وذلك في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، وعد من لا يملك لمن لا يستحق، وحققت لهم هذا الوعد بالتضافر مع باقي الدول الاستعمارية الأخرى يوم الرابع عشر من أيار/ مايو عام 1948.
ومنذ ذلك التاريخ يعيش الفلسطينيون في مسلسل لا ينتهي من المعاناة والعذاب وسرقة المزيد من أراضي فلسطين التاريخية من قِبل العدو الصهيوني الذي استباح دماءهم وأعراضهم وأموالهم، ولم يتوقف نضال الفلسطينيين ضده طيلة الأعوام الخمسة والسبعين الماضية، ولم يتوقف تآمر الحكام العرب ضد كفاح الشعب الفلسطيني، ولم ينصفه المجتمع الدولي ولم يرجع له حقوقه المسلوبة ولا أرضه المغتصبة، فالقوى الكبرى وعلى رأسها أمريكا تدعم وتساند الكيان الصهيوني، والحكام العرب موالون لها وحراس لحدوده!
تاجر الحكام العرب كلهم بلا استثناء بالقضية الفلسطينية أمام شعوبهم المتعلقة بفلسطين منذ عهد جمال عبد الناصر حتى الآن ليثبّتوا أركان حكمهم ودعائم ملكهم، ولكن ما كان يجري وراء الكواليس شيء آخر مختلف تماماً، ظهر للعلن بعد سنوات من الخداع والتضليل في اتفاقيات أبرمت مع العدو الصهيوني بغرض التطبيع معه تحت مسمى اتفاقات "أبراهام"!
لقد حقق الكيان الصهيوني مكاسب ومغانم كثيرة من اتفاقية "أوسلو"، ما لم يحققه في حروبه الثلاث الماضية (56، 67، 73)، ولم يكن السلام المزعوم إلا حربًا جديدة كسبها دون أن يحارب أو يطلق رصاصة واحدة!
لقد أُسقط هذا السلام المزعوم واتضح للعالم أجمع أن الكيان الصهيوني لا يريد السلام بل لا يعرف شيئاً اسمه السلام، فهو كيان استعماري، وبديهي كيف يكون للاحتلال مشروع سلام؟! إنه مشروع احتلال يُراهن على إخضاع الفلسطينيين وهجرتهم من أرضهم.