يتذكر الفلسطينيون اتفاق أوسلو أكثر مما يتذكرون الانتفاضة الثانية التي كانت التعبير الأقوى لنسف الأوهام التي عُلّقت على هذا الاتفاق المشؤوم، وعن الرفض الشعبي للاستسلام.
ويعود استحضار أوسلو في ذكراه سنويا، إلى كون هذا الاتفاق عملية غير منتهية، بمعنى أن (إسرائيل) استهدفت من خلاله، وتحت غطائه، تعميق المشروع الاستعماري الاستيطاني، وإدامة الهيمنة على كل فلسطين الانتدابية. إن السلطة الفلسطينية، أحد مخرجات أوسلو، وحدها فقط، ملتزمة به، وتحديدًا التنسيق الأمني، وهو جوهر هذا الاتفاق. وإذا استعرنا مقولة باتريك وولف المتداولة عن الاستعمار فإن هذا الاتفاق "بنية وليس حدثا".
ولهذا الاتفاق تداعيات كارثية ستحتاج ربما لجيلٍ كامل حتى يتم التخلص منها، وتحقيق الخلاص من كابوس الاستعمار، وإنجاز التحرر والعودة. أخطر هذه التداعيات؛ تفتيت الحركة الوطنية، وحدوث الانقسام، وتبديد المشروع الوطني التحرري، وتقويض منظمة التحرير الفلسطينية، ذات الوظيفة التاريخية المزدوجة؛ كأداة تحرير وكوعاء جامع لكل الشعب الفلسطيني، في الداخل وأماكن اللجوء.
وهذه التداعيات مستمرة، وتتوالد عنها محاولات مستمرة لإعادة إنتاجه، وجعله أبديًا. وللتوضيح والإضافة، لفهم عوامل ديمومة هذا الاتفاق، فإن ما يحميه ويحمي المشروع الاستعماري المتمدد دومًا، هو نشوء طبقة سياسية اقتصادية، يستند إليها حكم سلطة رام الله، باتت مصالحها مرتبطة ببقاء هذا الاتفاق.
على مدار السنين الماضية، أُشبع هذا الاتفاق/ الصفقة تحليلًا وتشريحًا، من قبل مراكز أبحاث، وملتقيات، ومجلات ومحللين وغيرهم، ولا تكاد تنتهي هذه المؤسسات من تناول مستجّدٍ على المشروع الاستيطاني الصهيوني، حتى تُفاجَأ بمستجدٍّ آخر، لتتصدى له في محاولة لفهمه واستشراف مآلاته، إسرائيليًا وفلسطينيًا ودوليًا.
وآخر هذه المستجدات تلك المتمثلة بالنسخة الأكثر سفورًا من التوحش الكولونيالي، أي ما تسمى خطة الحسم، لمهندسها وزير المالية والوزير في وزارة الأمن، بتسلئيل سموتريتش، التي تُطبَّق على أرض الواقع، في ظل حكومة الائتلاف الاستيطاني اليميني الحالي، بقيادة بنيامين نتنياهو.
اقرأ أيضًا: انقسام إسرائيلي بشأن اتفاق أوسلو في ذكراه الثلاثين
اقرأ أيضًا: فلسطين وعنق زجاجة أوسلو
على الصعيد العربي والعالمي، فقد سمح هذا الاتفاق بالتمدد غير المسبوق لـ(إسرائيل) عربيًا وعالميًا، حيث سقط في براثن التطبيع والتحالف الأمني، أنظمة عربية جديدة. أما على المستوى العالمي فقد خسرت القضية الفلسطينية دولًا كبيرة مهمة مثل الصين والهند. وقد وصل عدد الدول التي تعترف بإسرائيل بعد اتفاق أوسلو إلى 165، بعد أن كان 110 قبل أوسلو.
مرت سنوات بعد قمع الانتفاضة الثانية، سادها خضوع فلسطيني شبه كامل، وهي التي انتهت بآلاف الشهداء، والجرحى، والمعتقلين. و خلال هذه الفترة بالغة السوء، جرى إعادة هندسة قوات الأمن الفلسطينية، على يد الجنرال الأميركي، ليث دايتون، لترسيخ وظيفتها حامية للأمن الاسرائيلي، من خلال منع المقاومة وقمعها. كما تدفقت الأموال من الدول المانحة، التي تَحدّد هدفها بحماية السلطة وليس تحرير الضفة وقطاع غزة من الاحتلال والاستيطان، أو التنمية الاقتصادية الشعبية.
ولعبت هذه الأموال، في ربط السلطة واقتصادها التابع والمشوه بالنظام النيوليبرالي، وفي توفير الراحة للاحتلال ليمارس القمع والتوسع والسرقة، والحصار بتكلفة بسيطة. وقد نتجت عن ذلك تحولات اجتماعية واقتصادية ومعنوية عميقة، عززت الفقر من جهة، ونمّت طبقة وسطى تمتلك القدرة على الاستهلاك، وشريحة غنية، ما أبعد الناس عن ذهنية النضال والمقاومة.
أما في السنوات الأخيرة، وتحديدًا العقد ونصف العقد الأخيرين، فقد تجددت، بل تكثَّفت، مبادرات الاستئناف على اتفاق أوسلو وما يمثله، وما ينتج عنه يوميا، من ممارسة استعمارية وحشية ضد الأرض والبشر، والتاريخ، وهي مبادرات شعبية مستقلة. وسطرت القوى الحية في الشعب الفلسطيني آيات من المقاومة والصمود في مناسبات عديدة.
هذه المبادرات التي تتخذ أشكالا مختلفة، ومتنوعة، من المقاومة الثقافية، إلى الشعبية والمسلحة، إضافة إلى المقاومة المدنية على الساحات الدولية، ساحات الشعوب، لعبت دورًا هامًا في إحياء الأمل لدى فئات شعبية واسعة، وتبلورت فئات جديدة، وخاصة الحيوية منها، مثل الشباب، المتحررين من صدمة هزيمة الانتفاضة الثانية. هذه الفئات، وخاصة الأكثر وعيا وثقافة وشجاعة، تضطلع حاليا في استرداد الرواية واستعادة الوعي بفلسطين الواحدة، والشعب الواحد، والمصير الواحد، لكن في مواجهة تحديات كبرى داخلية وخارجية، ومخاطر عديدة.
ونشأت، وتنشأ، فرص مهمة أمام هذه الأجيال، وطلائعها، في مقاومتها للمشروع الصهيوني، الاستعماري، الذي تولّد عنه نظام أبارتهايد رسمي، تمثل في صدور التقارير المتتالية عن (إسرائيل) باعتبارها نظام فصل عنصري، يمارس جرائم ضد الإنسانية.
لقد خلقت (إسرائيل) واقع دولة واحدة، يحكمها نظام أبارتهايد، ما ساهم في إعادة كشف حقيقتها الاستعمارية الاستيطانية، وهو نظام لا يتسق مع عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان . كل ذلك ساهم في إعادة إحياء المشروع الفلسطيني التحرري الأصيل، الذي يشمل فلسطين بين البحر والنهر، على أنقاض نظام الأبارتهايد الكولونيالي.
وتأتي الآن الأزمة الطاحنة، الداخلية غير المسبوقة، التي تعصف بالكيان الإسرائيلي، وتكشف عن تناقضاته الصارخة، وانقساماته الأفقية والعمودية. ولكن لكي يتحول هذا الانقسام، من نزاع حول شكل الدولة، وبين الرغبة في استعادة الديمقراطية اليهودية الاستعمارية، والتخلي عن ديمقراطيتها اليهودية الاستعمارية، إلى صراع من أجل ديمقراطية بين البحر والنهر، أي التخلي عن نظام الفصل العنصري الاستعماري وامتيازاته الممنوحة لليهود، نحتاج إلى نقلة نوعية حقيقية في تفكيرنا، وتنظيمنا، ورؤيتنا للتحرر، وأدائنا وطريقة إدارتنا للصراع. وهذا هو التحدي الأعظم أمام الفئات الحيوية من شعبنا، سواء من الشباب أو الكبار، رجالا ونساء، أفرادًا ومؤسسات.