ليست المناسبات التاريخية وحدها التي تُحفّز الكُتاب والمحللين، وصانعي السياسة، والقادة، والمناضلين، على المراجعة والتقييم وتفعيل العقل التحليلي والاستشرافي، في تناول هذه المناسبات التي هي أصلا ذكريات لأحداث جسام في تاريخ الأمة أو البشرية.
ولكنها فرصة يُفتح فيها الباب على مروحة واسعة ومكثفة من هذه التحليلات، بعضها المشحون بالعاطفة المشروعة، خاصة عندما تأتي من الضحية، وبعضها الآخر بتحليلات رصينة وعميقة نحتاج إليها في عملية استجلاء معالم الطريق، بعيدا عن الحتميات والغيبيات.
وتُشكّل ذكرى نكبة فلسطين لنا ولغيرنا من أحرار العالم لحظة مهمة لمحاسبة أخلاقية لمرتكبي هذه الجريمة الكبرى والمتواطئين معها، باعتبارها أطول عملية تطهير عرقي في التاريخ، لكونها مستمرة، ولكونها ذات أبعاد عالمية منذ الغزوة الصهيونية حتى اليوم. إن من أوجد هذا الظلم الفادح في فلسطين هو النظام الاستعماري الرأسمالي الغربي، الذي لا يزال على نهجه المتنكر لمسؤوليته، والرافض لفرض تطبيق القرارات التي تبناها قبل 75 عاما، خصوصًا فيما يتعلق بالشق الثاني من قرار التقسيم، على ظلمه وفداحته.
ولإكمال الصورة، فقد شارك في جريمة تقسيم فلسطين، وفي عملية إقامة الكيان الاستعماري الصهيوني، وفي منحه الشرعية الدولية، المعسكر الاشتراكي بقيادته الستالينية، الذي غلَّب في حينه مصالحه على مواقفه الأيديولوجية المتصلة بمعاداة الاستعمار والتحرر الوطني والاجتماعي. بهذا المعنى يتحمَّل النظام العالمي، وإن بتفاوت، برمته ارتكاب واستمرار هذه الجريمة.
يميل العديد إلى تركيز كتاباتهم وتحليلاتهم على الجريمة الصهيونية، وهذا أمر ضروري لتذكير النظام العالمي، ليس فقط بحقيقة الكيان الاستعماري الصهيوني، بل أيضا بمسؤوليته عن هذه الكارثة المتواصلة، وكذلك لتعريف الأجيال الفلسطينية المتلاحقة بأسباب البؤس الذي يعانونه، وتجنيدها في معركة الخلاص من هذا البؤس والظلم. وآخرون يركزون على الفعل الفلسطيني المقاوم منذ بداية الغزوة، وهم مدججون بالأمل وبالتطلع إلى مستقبل مختلف، مستقبل يتخيلونه حرا منزوعا عن الكولونيالية وعنفها الوحشي.
وفئة ثالثة تجتهدُ في تقديم المشهد بكلّ تعقيداته التي تشمل الخسارات الفادحة التي تكبدها ويتكبدها الشعب والطلائعيون والفدائيون، والعذابات الإنسانية الفظيعة المرافقة أو الناجمة عن ذلك، وفي الوقت ذاته يأتون على الفعل الإنساني الطليعي الذي يؤديه الناس، مستعرضين التحديات والمصاعب الكبرى، المتمثلة في الحالة الذاتية والإقليمية والعالمية المعطوبة. وتجتهد هذه الفئة التي غالبا تواكب بحِرفيَّة عالية التحولات الداخلية والخارجية وميزان القوى، في تقديم تشخيص واقعي لمشهد الصراع، وفي كيفية مواجهته ومواكبة تطور أدوات النضال المتنوعة.
خلال وبعد ثلاثة أرباع قرن على إقامة نظام الأبرتهايد الاستعماري، نشأت ديناميات وتناقضات ومفارقات أمام هذا المشروع العدواني. من جهة، نجح قادة المشروع الصهيوني الكولونيالي في إقامة كيانه، وتأسيس نظام (عرقي - يهودي) حديث، واقتصاد من أقوى اقتصادات العالم، الذي حظي بشرعية وبإعجاب النظام العالمي، الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا بجميع القوى المشكلة لمجلس الأمن، الغربية والشرقية. كما أفلت من العقاب على جرائمه القديمة والمستمرة، بفضل حماية النظام العالمي وتواطؤ دول أخرى كثيرة معه. كما نجح وبمساندة الإمبريالية الأميركية في كسر حائط المقاطعة العربية، وإقامة تحالفات أمنية واقتصادية مع عدد من الأنظمة العربية. وبالتوازي، تمكن عبر القوة والسياسات الناعمة من هندسة سلطة فلسطينية وتطويعها لتصبح جزءًا من منظومة الاستعمار في الضفة الغربية، بحيث بتنا أمام بيروقراطية فلسطينية ذات طبيعة سلطوية يتحكم فيها شخص واحد.
ولكن في الوقت ذاته تنفجر تناقضاته الداخلية الآن، وبصورة غير مسبوقة، التي خرجت إلى العلن منذ ثلاثة أشهر، عبر حركة احتجاجات واسعة ومستمرة وحادة، بات يعدها بعض نخبه أنها خطر وجودي.
في المقابل، وعلى النقيض من ذلك كله، هناك مسار ينمو ويتقدم، تارة بوتيرة عالية وتارة بوتيرة بطيئة، يتمثل بنهضة في الوعي والفعل، الوعي الثقافي والوطني الذي يتناول الأرض والشعب والقضية وحدة واحدة، والفعل الشعبي الممتد بين البحر والنهر، وإن غالبا يكون محصورا في فئات شعبية وسياسية محدودة، حتى الآن.
وهنا تأتي المفارقة، بحيث رغم كل هذه الانكسارات وتواطؤ القوى الكبرى، والإمعان في هذا التواطؤ مع نظام الأبرتهايد الاستعماري، من خلال نسج العلاقات الاقتصادية والأمنية، ورغم انكسار الثورات العربية وإغراقها ببحور من الدماء، على يد أنظمة الاستبداد والقوى الخارجية، الأجنبية والعربية، رغما عن كل ذلك، وبسبب ذلك، تتجدد حالة الرفض والفعل الفلسطيني بأشكال مختلفة من المقاومة، الفكرية، والثقافية، والشعبية، والعسكرية. هكذا يتمكن شعب فلسطين من إعادة طرح قضيته على العالم كقضية تحرر وطني.
لقد خلق تغول المشروع الاستعماري الصهيوني المتمدِّد دومًا في أرجاء فلسطين نقيضه الطبيعي، بحيث بات يُحرج حلفاءه في حكومات الغرب، والمدافعين عنه من النخب، ما دفع أصواتا كثيرة إلى التنصل من جرائمه، أو إلى انتقاد سلوكياته، خصوصًا بعد أن توالت تقارير أهم المنظمات الدولية لحقوق الإنسان في السنوات القليلة الماضية، التي تعيد تعريف (إسرائيل) كنظام أبرتهايد إجرامي.
هكذا تجد (إسرائيل) نفسها أمام تحول في الرأي العام، ليس فقط على المستوى الشعبي، بل أيضا على المستوى شبه الرسمي. وكما هو معروف، فإن مجلة "فورين أفيرز"، هي مجلة شبه رسمية وهي مصدر السياسات الخارجية الإستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية.
لا يزال الطريق طويلا أمام شعب فلسطين، وكذلك مسيرة المعاناة والشقاء. وسيتعين على هذا الشعب، وخاصة طلائعه الأكثر وعيا، وذات الرؤية الواقعية، والتطلعات الوطنية الكبيرة، مجابهة الواقع الجديد المتشكل، واشتقاق الإستراتيجيات والأدوات الصحيحة، والأقل تكلفة، والأكثر تأثيرا. ليس بالضرورة أن تكون الاصطفافات العربية والإقليمية والدولية التي نشهدها مؤخرا أن تكون لمصلحتنا، أو حتى لمصلحة الشعوب المقهورة، العربية وغير العربية، ذلك أن الاصطفافات هي حول مصالح الدول/ الأنظمة، وليس حول الحقوق المهدورة للشعوب. ولكن لا تستطيع حركة تحرر استعمار كولونيالي إحلالي، أن تعفي نفسها من مسؤولية البحث عما يفيد قضيتها في هذه الاصطفافات، من خلال اعتماد البراغماتية المتزنة، الموجهة بمعايير أخلاقية إنسانية تحترم كرامة وحرية الإنسان خلال عملية التحرر، وبعد إنجاز هذا التحرر، كما لم يعد مقبولا فصل حركة التحرر الوطني الفلسطيني عن منظومة التحرر السياسي والاقتصادي والديمقراطي الكونية، التي تشاركنا فيها حركات التحرر العربية والعالمية.
إن القضية الفلسطينية تعود تدريجيا للظهور كقضية دولية وقضية عربية، قضية تحرر وطني وعدالة إنسانية، ولهذا التأطير متطلبات مختلفة عن كونها قضية محلية، تختزل في نزاع بين طرفين، بل صراع يخوضه شعب ضد نظام أبرتهايد كولونيالي من خلال المقاومة المشروعة.
هكذا يتشكل الأمل من جديد، وإذا توافرت القراءات الصحيحة والرؤية السليمة، والأدوات الفاعلة، نصبح أمام بداية العد العكسي لمنظومة القهر والاستعمار والتقسيم.