دان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، بشدَّة وبغضب، ما اقترفته دولة الاحتلال في مخيَّم جنين، وعدَّد أنواع تلك الانتهاكات للقانون الدولي: "إنَّ الهجوم خلَّف أكثر من مائة مصاب من المدنيِّين، وأجبر الآلاف على الفرار من بيوتهم، وألحق أضرارًا بالمدارس والمستشفيات، وعطَّل شبكات المياه والكهرباء"، كما انتقد منْع الجرحى من تلقِّي الرعاية الطبية، والعاملين في المجال الإنساني من الوصول إلى المحتاجين. ولدى سؤاله عمَّا إذا كانت هذه الإدانة تنطبق على (إسرائيل)، أجاب: "إنها تنطبق على كلِّ استخدام مُفرط للقوّة، ومن الواضح أنه في هذه الحالة، استخدمت القوات الإسرائيلية القوّة المفرطة".
لن تمنع هذه الإدانة من هذا المستوى الدولي الرفيع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو من العودة إلى هذا النهج، بل قد يعود إلى ما هو أشدّ، وقد صرَّح بأن العملية ستتكرَّر إذا لزم الأمر. بالطبع، أول ما يقفز إلى الذهن أن السبب في هذه الاستهانة بالإدانة الدولية عائدٌ إلى اطمئنانه إلى إفلات (إسرائيل) من العقاب، وإن كانت سينالها مزيد من الأضرار غير الرسمية، كتنامي حملة المقاطعة العالمية؛ نتيجة تحوُّلات الرأي العام العالمي، وبالاستناد إلى مثل هذا الموقف الدولي الصادر عن الأمين العام للأمم المتحدة الذي يتعذَّر إبطاله بوصمه باللاسامية، أو بالتحيّز.
وفي المنطق الأعمق لمنطلقات قادة دولة الاحتلال السياسيِّين والأمنيِّين، ضمان أمن دولتهم ومستوطنيهم هدفٌ لا يمكن التفاوض عليه، أو التهاون به، بالبناء على مغالطاتٍ كثيرة الإشهار، وهي أنَّ من حقّ أيَّ دولة، ومن واجبها، أن تحمي مواطنيها، ومَرافِقها. وهنا تغافُلٌ عن أن (إسرائيل) ليست كأيِّ دولة؛ إنها ببساطة دولة منتهِكة؛ تحتلّ، (على الأقل، ووَفقًا للقانون الدولي)، الأراضي الفلسطينية التي احتُلَّت عام 1967، من الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزّة. وأنها حين تتوغَّل في تلك المناطق، وخصوصًا الضفة الغربية، إنما تمارس ذلك، ووصْفُ الدولة المحتلة لا يفارقها، فهي المعتدية، بمجرَّد وجودها، ثم هي تتحمّل مسؤولية، وفق القانون الدولي، عن أولئك الفلسطينيين الواقعين تحت احتلالها.
اقرأ أيضًا: مخيّم جنين جذوة المقاومة التي لا تنطفئ
اقرأ أيضًَا: الاندحار الإسرائيلي عن جنين كان متوقعًا
وهذا عينُ ما أكّده غوتيريس في تصريحاته، حين قال: "يتعارض استخدام الضربات الجوية مع سير عمليات إنفاذ القانون". وذكّر الأمينُ العام للأمم المتحدة (إسرائيل) بأنها "بصفتها القوَّة المحتلة، عليها مسؤوليةُ ضمان حماية السكَّان المدنيِّين من جميع أعمال العنف".
لكنّ هناك أسبابًا أخرى لهذه الانتهاكات التي تستخفّ بكلِّ العالم، مِن أبرزها، تعطُّش قادة الاحتلال (وفي مقدمهم نتنياهو، وتعيينًا في هذا الظرف غير المساعد، داخليّا؛ لكونه يواجه احتجاجاتٍ واسعة، لم يتوقَّف حِراكُها، حتى أثناء العدوان على مخيَّم جنين) إلى "إنجازاتٍ أمنية"، في الأساس، هو محتاجها، أصلًا، حتى من دون تلك المُعيقات الداخلية التي تواجه تطلُّعاته إلى "إصلاح القضاء"، وإلى تكريس سلطته، وتعظيمها.
وسبب ثانٍ أنه محتاج وفْق العقيدة الأمنية الاحتلالية إلى "ردع" هؤلاء المناضلين، أو هذا الجيل الجديد منهم، وإلى الأجيال الفلسطينية الناشئة، بل إلى ما هو أكثر من ردعهم؛ إلى إصابتهم بالصدمة، فيما يأملون، لفرط استعراض القوّة، والقدرة الفائقة على التدمير؛ العائدة، في الدرجة الأولى، ليس إلى كفاءة قوَّاته القتالية، بقدر ما تعود إلى كفاءة الأسلحة الحديثة، وضخامة الترسانة غير المتناسبة بالمرَّة مع أعداد محدودة من المقاتلين غير النظاميين من محدودي التدريب، في مساحة بالغة الضيق، 0.42 كم²، إذا ما قيسوا بجنود الاحتلال، وما ينفق عليهم، وما يتاح لهم من إمكانات لوجستية، وآفاق تدريبية فريدة.
وهذا ينقلنا إلى عامل آخر، ضعف القدرة القتالية الشخصية لجنود الاحتلال، لجهة تزعزع إيمانهم بالهدف، إذا ما قورنوا بالمقاتلين الذين يدافعون عن مخيّمهم وعن وجودهم وعن أهلهم، فضلًا عن انطلاقهم من واجب التضحية؛ ثمنًا لتحرير وطنهم، ووضع حدٍّ لانتهاك كرامة أبناء وطنهم، وتدنيس مقدساتهم.
وسبب قريب يكمن في تراجُع الاستعداد للتضحية في صفوف المجتمع الذي يتكئ عليه نتنياهو، فهو لا يتحمَّل معركةً طويلة، واستنزافًا، وخصوصًا في أرواح جنوده، ولو على نحو متقطِّع، ولو كان في ذلك في سبيلٍ يؤمن به مجتمعه، بل يعيّره، وقد يُسقِطه، وينهي مستقبله السياسي، إن هو أخفق في تحقيقه، وهو الأمن.
وبالطبع، هناك سبب استراتيجي وهو أن يتفاقم الوضع العسكري في مخيَّم جنين، وأن تستقرَّ للمقاتلين فيه بنيةٌ عسكرية قتالية، تشبّ عن الطَّوْق، وأن يستمرَّ في كونه بؤرة تهديد، وتصدير للعمليات التي تضرب جنود الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة والقدس، أو في قلب دولة الاحتلال، كما حصل قبيل البدء بعملية كاسر الأمواج (مارس/ آذار 2022).
وأمام هذه الأخطار والمطامح، نتنياهو مضطرّ إلى أن يستهين بالخطر الخارجي الدولي، ما دام مطمئنًّا إلى الدعم والغطاء الأميركيين، حيث تمنع الولايات المتحدة اتخاذ قرار ملزم من مجلس الأمن بالاعتماد على حقّ النقض (الفيتو)، أو بممارسة الضغوط على الدول الأعضاء، الخفية والعلنية؛ للحؤول دون مساندة الحق الفلسطيني.
وبعد، فقد نحت المواجهة مع مخيَّم جنين منحى نفسيًّا، ثأريًّا، وأصبحت المسألة مسألة تحدٍّ، ينفذ إلى عمق الوجود الاحتلالي، وإلى جيشه ومواطنيه، وخصوصًا إذا تذكَّرنا ما فعلته دولة الاحتلال بهذا المخيَّم قبل أزيد من 21 عامًا، في ما اندرج ضمن عملية السور الواقي 2002، وفي ما أوقعه أبناء المخيَّم، حينها، في جيش الاحتلال، بقتْل قرابة 40 جنديًّا، وإصابة 140 آخرين، أما هي فقد ألحقت به دمارًا كبيرًا، بالقتل والإصابات؛ (500 شهيد حسب مصادر فلسطينية، فضلًا عن الجرحى). حينها استخدم الاحتلال سياسة الأرض المحروقة، وارتكب جنودُه جرائم القتل العشوائي، وعمدوا إلى استخدام الدروع البشرية، ونكَّلوا تنكيلًا شديدًا بأبنائه، تنكيل المُؤَمِّل إلى طيّ ملفّه، إلى الأبد، أو إلى أمدٍ بعيد. وباختصار، علَّق منسِّق الأمم المتحدة في الشرق الأوسط تيري رود لارسن، بعد مشاهداته، حينها: "إنَّ الوضع في مخيَّم جنين للاجئين الفلسطينيين مذهلٌ ومروِّعٌ لدرجة لا تصدَّق، إنَّ الروائح المنبعثة من الجثث المتحلِّلة تحوم في أنحاء المخيَّم، يبدو كما لو أنَّ المخيَّم تعرَّض لزلزال". ويكفي أن تلك الفظائع كانت بتوقيع رئيس وزراء الاحتلال الأسبق السفّاح أرئيل شارون. لكن الزرع نبت، من جديد، وما إن استوى، أو كاد، حتى كان ذلك الجيل الذي شهد الفظائع، ومحاولات الإبادة، أشدَّ عزمًا، متغذيًّا، من ضمن ما يتغذَّى، بما ظنَّه الاحتلال وقادته الكبار، حينها، أنه السُّمُ المُؤْيِس والقاهر.