يكشف العدوان الإسرائيلي الأخير على مخيم جنين بقدر كبير عن العناصر الفاشية الكامنة في الفكر الاستعماري الصهيوني العنصري، القائم على منطق الإبادة، التي استعملتها الدول الاستعمارية الأوروبية، الحاضنة الأمّ للفكر الصهيوني، ضد الشعوب الأصلية في أميركا وإفريقيا، واستعملتها الحركة الصهيونية عبر المجازر الجماعية، التي ارتكبتها خلال نكبة 48، بعد أن وضعت شعبنا أمام مفاضلة صعبة، بين الإبادة والتهجير.
ومن الواضح أن اختلاف الظروف الزمنية لظهور الحركة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية، جاءت بعد قرون من الاستعمار الأوروبي في أميركا، وفي عالم عصري مرّت عليه حربان عالميتان مدمرتان، أفرزتا منظمات وتشريعات وقواعد ولوائح لحقوق الإنسان، صعّبت بأقل تكرار لعمليات إبادة ملايين البشر، بغرض استعمار بلادهم، وهو ما جعل الحركة الصهيونية تستعيض عن الإبادة المباشرة بأسلوب "الإخفاء"، عبر الطرد والتهجير والتهميش، وتقطيع أوصال الشعب الأصلي، وقمع مقاومته وطموحه بالحرية والاستقلال، وهي أساليب ما تزال تعتمدها في حرب الإبادة المتواصلة، التي تشنها ضد شعبنا.
بالقدر نفسه، فإن مخيم جنين بوصفه نموذجا للمقاومة والصمود الفلسطينييْن، يكشف عن إصرار شعبنا على الحياة، وقدرته اللامحدودة على تحدي الظلم والموت، حتى في ظروف انعدام أدنى تكافؤ في ميزان القوى، كما جرى في العدوان الأخير، حيث استخدم الاحتلال أقصى قدراته البرية والجوية والتكنولوجية، كاسرا كل قواعد وأخلاقيات الحرب، عبر قصف البيوت بالطائرات المسيرة، وتجريف الشوارع، وتدمير المنازل والبنى التحتية، التي سبق أن دمرها في اجتياح المخيم عام 2002، وكذلك تهجير الأهالي الذين كان قد هجرهم من بيوتهم عام 1948.
لقد نهض شعبنا من النكبة عام 1948، لأن جذوة المقاومة ظلّت متقدة تحت رماد النكبة، ونهض المخيم من عدوان حملة "السور الواقي" التي هدفت إلى فرض اتفاقيات الاستسلام وشروطها على شعبنا، لأن هذه الجذوة ظلت متوقدة أيضا بين ركام الدمار، لتشعل من جديد مقاومة جنين، التي يحمل رايتها جيل جديد، وتمتد ألسنة نارها اليوم، لتشعل مساحات الوطن.
اقرأ أيضًا: بين جنين والداخل المحتل.. مفاجآت يخشاها الاحتلال
اقرأ أيضًا: العدوان على مخيم جنين وقدر الفلسطينيين
إنه جيل جديد، لم يشهد فظائع عدوان "السور الواقي" كما يقول قائد أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، هرتسي هليفي، الذي أراد تكرار التجربة، وكان متحمسا، بعكس ما يروجه بعض الكتاب الإسرائيليين "اليساريين"، الذين يدّعون أن جيش الاحتلال، تحفظ من "العملية"، التي فرضتها القيادة السياسية، الخاضعة لإملاءات اليمين الاستيطاني، حيث ينقل يغيل ليفي في مقال نشرته "هآرتس"، عن قائد أركان الجيش الإسرائيلي قوله في الخطاب الذي ألقاه في مؤتمر هرتسليا، الشهر الماضي، إن تعاظُم أعمال المقاومة التي تشهدها الضفة الغربية، مردّه بروز جيل جديد، لم يشهد عدوان "السور الواقي"، ولم يرتدع.
وبالرغم من أن الكاتب ذاته، يعارض رأي هليفي بأقوال رئيس منطقة القدس والضفة الغربية في "الشاباك"، أريك برينبرغ، السابق، التي عزا فيها ما تسمى إسرائيليًا "انتفاضة الأفراد" 2015- 2016 إلى واقع الاحتلال الذي خلقته "عملية السور الواقي" بين الشباب الفلسطيني، إلا أنه يشير إلى أن هليفي قد استبدل التحليل الحساس نسبيًا لخريج "الشاباك"، بما وصفها عقلية عسكرية تقليدية من مدرسة موشيه يعالون، حول "كيّ الوعي" بواسطة القوة، معددًا مركّبات هذه القوة المتمثلة بالمعلومات والدقة والقوة، إضافة إلى الكثير من العامل النفسي الذي يجعل الاحتلال يشعر أن ما تفعله به أثقل من أن يتحمله.
ويقول الباحث في الشأن العسكري، إن العدوان على جنين يلائم توجه قائد الجيش الإسرائيلي هرتسي هليفي، المتمثل بتفعيل قوة تؤدي إلى أن يشعر الجيل الفلسطيني الشاب مجددًا بأثر "السور الواقي"، وهو ما بدا واضحًا في الضربة الجوية الدقيقة والمركزة، التي افتتحت الحملة العسكرية على المخيم.
كما يشير إلى أن العدوان على جنين أعطى فرصة لجيش الاحتلال لعرض قدراته التكنولوجية التي يرتكز عليها الالتزام غير الرسمي بالحفاظ على الوضع القائم، الذي يؤمن سيطرة (إسرائيل) على المناطق المحتلة، ومنع تسويات إقليمية، أو حل سياسي.
لكن ظهور المقاتلين الفلسطينيين في المخيم فور انسحاب قوات الاحتلال من محيطه، نسف كل تلك المقولات، وجاء تأكيدًا للمؤكد شديد الوضوح أن (إسرائيل) لن تستطيع القضاء على مقاومة الشعب الفلسطيني، ولا إضعاف روحه المعنوية، وحلمه في العودة والحرية والاستقلال، الذي ينتقل من جيل إلى جيل.
وبالرغم من اعتراضنا على ما يقوله المحلل الإسرائيلي للشؤون العربية، تسفي بارئيل، بأن الحملة العسكرية على مخيم جنين ليست أكثر من حبة مهدئ للمستوطنين، فإننا نرى الكثير من المنطق بما يقوله بشأن محاولات المستوطنين للعمل على إطلاق يد جيش الاحتلال، ومنحه الترخيص والصلاحية للقيام بحملات انتقامية، تتوافق مع توجهاتهم، بهدف خلق ما يصفونه بتوازن رعب مقابل الفلسطينيين، وذلك من باب أن من لا يريد مجازر خاصة ضد الفلسطينيين يقوم بها المستوطنون، فليحولها إلى مجازر قانونية، عبر نقل تنفيذها إلى شركة مقاولة منظمة على غرار الجيش الإسرائيلي.