مرة أخرى يتأكد الاعتقاد السائد لدينا ولدى غالبية الفلسطينيين والعرب، أن المصالح الإستراتيجية التي تجمع أميركا و(إسرائيل) هي فوق أي خلافات داخلية أو ثنائية تطرأ داخل إدارات الدولتين المختلفة وبينها؛ ويعزز هذا الاعتقاد سرعة ذوبان "جبل الجليد" الذي فصل بين إدارة بايدن الديمقراطية وحكومة نتنياهو اليمينية الاستيطانية، بفعل إجراءات "الانقلاب الدستوري" الذي تنفذه الأخيرة، والذي حال حتى الآن دون استقبال نتنياهو في واشنطن كما جرت العادة.
ويبدو أن "الصديقين اللدودين" لم يجدا أكثر من حرارة الصحراء السعودية جدوى وسرعة لإذابة الجليد، وبعث الدفء في مفاصل العلاقة الشخصية الباردة لتتواءم مع حرارة العلاقة الإستراتيجية بين الدولتين الحليفتين، كما لم يتطلب الأمر أكثر من تصريح يدلى به نتنياهو أعرب فيه عن استعداد (إسرائيل) لفحص مطلب السعودية، السماح لها بإقامة منشأة لتخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية.
وهو تصريح دفعت السعودية ثمنه مباشرة باعتراف علني غير مسبوق صدر عن ولي العهد، محمد بن سلمان، في تصريح أدلى به لشبكة "فوكس نيوز"، تضمن إقرارا بوجود مفاوضات متقدمة لتطبيع العلاقات مع (إسرائيل)، وإعرابا عن تفاؤله باقتراب نجاحها، وبالنص الحرفي للتصريح: إن "كل يوم يمر يقربنا من هذا الإعلان"، ولم ينسَ ابن سلمان أن يذيل تصريحه "مشكورًا" بالقول: إن الاتفاق سيشمل "تسهيل حياة الفلسطينيين".
فجأة تنقلب الأجندة الإسرائيلية والأميركية رأسا على عقب، ليتوحد الإسرائيليون بمعسكراتهم المختلفة حول الجهد الأميركي الذي يبذله صديقهم بايدن، منذ شهور، والهادف إلى ربط العربة السعودية في قطار لتطبيع الخليج العربي وإغلاق الدائرة على الفلسطينيين، الذين لم يبقَ من قضيتهم عربيا سوى مسألة "تسهيل حياتهم" تحت الاحتلال، طبعا، بتعبير محمد بن سلمان.
اقرأ أيضًا: السعودية والتطبيع
اقرأ أيضًا: التطبيع: لماذا لا يُستفتى الشعب الفلسطيني؟
وبقدرة قادر تنقلب كل المعادلات، "الأرض مقابل السلام" التي قام عليها مسار مدريد -أوسلو وصاغتها أميركا ذاتها، و"التطبيع العربي مقابل الأرض" التي قامت عليها مبادرة السلام السعودية وتحولت إلى مبادرة عربية، ليصبح اشتراط سموتريتش بعدم تقديم تنازلات تتعلق بالأرض هو الأساس، ومعادلة نتنياهو "السلام مقابل السلام" هي القاعدة.
السعودية تقبض ثمن تنازلها عن القضية الفلسطينية بالعملة الأميركية وليس الإسرائيلية، بوعودات أميركية بتزويدها بمنظومات أسلحة متطورة وانضمامها إلى معاهدة دفاع مشترك بصيغة "الناتو" وبرنامج نووي لأغراض سلمية، وكلها حبر على ورق قد تتبخر بعد إعلانها تطبيع علاقاتها مع (إسرائيل)، مثلما تبخرت صفقة الـ"إف 35" الإماراتية.
من جهتنا، نعرف أن (إسرائيل) تمتلك الكثير من أوراق اللعب في الساحة الأميركية، فهي قادرة على إسقاط أي من تلك الصفقات بالتصويت في الكونغرس، وحتى عبر تحريك أي ملف قضائي ضد السعودية في المحاكم الأميركية أو إثارة فضائح تتعلق بالأخيرة في الإعلام الأميركي، علما بأنها لا ترى ضيرا في تمرير بعض هذه الصفقات جزئيا، طالما تعرف أنها موجهة إلى إيران وليس ضدها، بل أن من مصلحتها ربما خلق حالة من التوازن والردع المتبادل مع إيران في منطقة الخليج.
رئيس المعارضة، يائير لبيد، فضح ذلك عندما قال إنه لا يرى سيناريو يوافق فيه الكونغرس على السماح للسعودية بتخصيب يورانيوم على أرضها، ناهيك بصعوبة تمرير الأمور المتعلقة بالفلسطينيين، مشيرا إلى أن نتنياهو يعد بأمور لا يستطيع تنفيذها، وطبعا يتناسى لبيد متناسيا ما فعلته حكومته (حكومة بينيت - لبيد) عندما وافقت على صفقة طائرات الـ"إف 35" مع الإمارات، وتركت مهمة إفشالها للكونغرس، ومتجاهلا أن معظم الوعودات المتعلقة بالفلسطينيين في حالات كهذه تبقى حبرا على ورق.
هذا مع العلم أن المصدر الأمني الرفيع الذي قام بالإحاطة الصحافية بعد لقاء بايدن ونتنياهو، أشار كما نقلت "يديعوت أحرونوت"، إلى أن (إسرائيل) والولايات المتحدة تعارضان منح السعودية حق تخصيب اليورانيوم على أرضها، وأنهما مستعدتان للموافقة على "النموذج الإماراتي"، الذي تحصل السعودية بموجبه على مفاعلات نووية لكن عملية التخصيب تجري في دولة أخرى وتحصل على يورانيوم مخصب.
وفي كلتا الحالتين فإن النتيجة ستكون ذرا للرماد في العيون واستغفال السعوديين، مثلما جرى استغفال من سبقهم وحصد مكاسب (لإسرائيل) أصبح بعضها، على غرار السماح للطيران الإسرائيلي بالمرور عبر الأجواء السعودية، ناجزا حتى قبل الإعلان عن تطبيع العلاقات.
لكن وإن كانت السعودية هي الخاسرة لكونها تقدم تنازلات دون الحصول على مقابل جدي وهي تغلق دائرة التطبيع العربية، فإن الفلسطينيين هم الخاسر الأكبر ودولة عربية بحجم السعودية تدير ظهرها لهم ولقضيتهم التي كانت تعد قبل حين قضية العرب الكبرى.