في محاولته للهرب إلى الأمام من الفشل الذي مني به في غزة بعد أكثر من نصف سنة على الحرب المدمرة، جلب نتنياهو على إسرائيل فشلا إستراتيجيا آخر، على المستوى الإقليمي أمام إيران، يضاف إلى الفشل المزدوج أمام المقاومة في غزة الذي ابتدأ في السابع من أكتوبر وتواصل مع الحرب الدموية التي فشلت حتى الآن في تحقيق أهدافها المعلنة بسحق حماس وتحرير الرهائن واستعادة هيبة الردع الإسرائيلية.
المحلل السياسي في صحيفة "هآرتس"، يوسي فيرتر، اعتبر الهجوم الإيراني على إسرائيل تغييرا في قواعد اللعبة الإقليمية، مشيرا إلى أنه بمثابة سقوط للبنة الأخيرة في هالة الجبروت الكذابة التي أحاط نفسه بها بنيامين نتنياهو بمفاخرته بأنه رادع حماس وضابط حزب الله و"حامي حمى" إسرائيل، وفي الحقيقة، والكلام لنا، أن تلك الأحداث (السابع من أكتوبر، والحرب على غزة، والهجوم الإيراني) كشفت ليس فقط كذب نتنياهو ومظهريته الزائفة بل هشاشة الردع الإسرائيلي وسقوط نظرية "الجدار الحديدي" الموروثة عن جابوتنسكي، والتي تبناها نتنياهو كأساس لسياسة إسرائيل الأمنية والسياسية في التعامل مع دول المنطقة.
إيران، اليوم، على عتبة دولة نووية، كما يقول فيرتر، وتمتلك قدرا من الثقة بالنفس يمكنها من إطلاق كمية كبيرة من الصواريخ والمسيرات نحو إسرائيل رغم اللا الأميركية التي أطلقها جو بايدن، ولا شك أنها قد شعرت بالضعف الإسرائيلي المتمثل بالانقسام الداخلي وبرود العلاقة مع الولايات المتحدة، وهي ذات العوامل التي قادت إلى هجوم السابع من أكتوبر أيضا.
وغني عن البيان أن الهجوم الإيراني، وبالقدر الذي أثبت مرة أخرى تجند الغرب لحماية إسرائيل بصفتها ذاك المشروع الغربي الاستعماري في المنطقة، كما فعل غداة السابع من أكتوبر، وذلك من توظيف مظلته الجوية المنتشرة على امتداد المنطقة العربية لصد غالبية الصواريخ والمسيرات الإيرانية قبل الوصول إلى أهدافها، إلا أنه أثبت مرة أخرى أن إسرائيل عاجزة عن الدفاع عن نفسها بدون أميركا وحلفائها من الدول الغربية ووكلائها من دول عربية في المنطقة، حيث جرى اعتراض الصواريخ الإيرانية بواسطة القواعد العسكرية الغربية المنتشرة على امتداد المسافة الفاصلة بين إيران وإسرائيل، والتي تملأها بضع دول عربية.
لكن على الرغم من ذلك فإن هذا الهجوم أدخل إسرائيل في مأزق جديد هو المأزق الإيراني قبل أن تخرج من المأزق "الغزاوي"، الذي تحول إلى "مستنقع" تغرق فيه قواتها دون أن تتمكن من تحقيق أي تقدم على طريق الأهداف العسكرية التي وضعتها نصب أعينها، حيث يجمع غالبية الخبراء العسكريين الإسرائيليين أن الحديث عن "النصر المطلق" بالهجوم على رفح هو ذر للرماد في العيون ومحاولة بائسة للتستر على الفشل.
الجنرال احتياط أوري درومي، استعان في مقال كتبه، بالمنظر العسكري كارل فون كلاوزوفيتش، للإجابة عن سؤال يتعلق بالخطوط السياسية التي تخدمها الحرب على غزة، بالنظر إلى أن مسألة تحرير الرهائن، برأيه، هي مسألة إنسانية، وهو يرى وفق كلاوزوفيتش أن هدف الحرب السياسي بالعموم، هو إقامة سلام افضل من الذي كان قائما قبلها، وبهذا المعنى فإنه حتى لو لم يتم صياغة سياسة إسرائيلية لليوم التالي، كما يقول، فإن الهدف هو خلق وضع لا تستطيع معه حماس من تهديد إسرائيل وعرقلة سير حياة سكانها، ويشتق من هذا الافتراض سؤالا، حول مدى قرب إسرائيل من هذا الهدف السياسي.
ويوظف درومي مصطلح كلازوفيتش المعروف بـ"نقطة استنفاذ النصر" وهي النقطة التي يحقق فيها الطرف المهاجم "غالبية الأفضليات الممكنة من خطواته، بالنظر إلى الموارد التي بحوزته والأهداف السياسية التي حددها لنفسه"، وهي نقطة تصبح بعدها الإنجازات العسكرية هامشية مقابل الخسائر والأثمان التي يدفعها الطرف المهاجم، وهو يؤكد على أهمية التوقف عند هذه النقطة كي "لا نجلب لأنفسنا الكارثة بدل المزيد من الإنجازات"، ويشير في هذا السياق إلى تجربة تورط القوات الأميركية في كوريا على سبيل المثال، وينتقد أصحاب مقولة "النصر المطلق" الذين يعرضون علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة للخطر ويحولونها إلى دولة معزولة عالميا.
نستنتج مما تقدم أن إسرائيل ليس أنها لن تستطيع تحقيق النصر المطلق الذي يتحدث عنه نتنياهو في غزة، بل إنها تفقد باستمرارها في حرب دون طائل الكثير من منجزاتها العسكرية التي حققتها حتى الآن، بمعنى أنها تغوص في رمال غزة، أو كما يقول إيهود براك، إن إسرائيل بعدم إنجازها لصفقة تبادل أسرى تضيع من يديها مكاسب الحرب، وإذا ما صدقت كذبة أنها على بعد خطوة من النصر وانتظرت الهجوم على رفح فإن الرهائن سيعودون في توابيت.
إنه إقرار بالفشل بعد أكثر من ستة أشهر من الحرب المدمرة التي وصلت فيها إسرائيل إلى قاع السقوط الأخلاقي بارتكابها جريمة إبادة جماعية وخسارة سمعتها العالمية، بعد أن فقدت قوة ردعها وهيبتها العسكرية دون أن تتمكن من تحقيق أي من أهدافها.