"يجب محْو حوّارة" والشعب الفلسطيني "اختراعٌ وهميٌّ لم يتجاوز عمره 100 سنة"، و"لا وجود لبلد اسمُه الأردن، فهو داخل في خريطة (إسرائيل)"، هذا بعض ما يؤمن به وزير المالية في حكومة بنيامين نتنياهو بتسلئيل سموتريتش "كَذا فَليَجِلَّ الخَطْبُ وَليَفدَحِ الأَمرُ"، لا دبلوماسية ولا انتظار لنتائج المفاوضات المتوقِّفة منذ سنين، على أيِّ حال ولا محاولات مُلفَّقة لإثبات مسؤولية الفلسطينيين عن وقفها أو عن فشلها، إنما هكذا مِن الآخِر: لا وجود لفلسطين، ولا لشعبها، ولا حتى للأردن وحدودها!
ومعناه حسمُ أيِّ آمالٍ نحو مسالك سياسية، في التعاطي مع الفلسطينيين، فقصاراهم أن يعيشوا أفرادًا في (إسرائيل) "الدولة اليهودية" بلا قومية ولا هوية، ولا حتى لغة رسمية معترَف بها. غير ذلك فمن لا يثبُت ولاءه يستحقُّ الترحيل، هذه العَيِّنة من الأفكار التي طالما عشَّشت في أذهان عنصريِّين صهاينة لا تقتصر على سموتريتش، يشاركه فيها مثلًا وزيرٌ آخر هو إيتمار بن غفير، حامل حقيبة "الأمن القومي"، الذي كان مِن أتباع الحاخام العنصري الراحل مائير كاهانا الذي حُظِر تنظيمُه في (إسرائيل)، وأدرجته الولايات المتحدة في قائمة المنظمات الإرهابية، وكاهانا هذا كان يطالب بأن تكون (إسرائيل) خالصة لليهود، وحرّض على ترحيل الفلسطينيين من أراضيهم، لم يقطع "بن غفير" صلاته به، ولم يتبرَّأ من فكره، بل جدَّد ولاءه لمؤسّس حركة كاخ المحظورة في (إسرائيل)، بمشاركته في تأبينه وذلك في وقت قريب؛ أواخر العام الفائت 2022؛ ما دفع وزارة الخارجية الأميركية إلى التنديد العلني بتلك الفِعْلة، حين رأى المتحدّث باسم الوزارة نيد برايس في "الاحتفال بإرث منظمة إرهابية أمرًا مثيرًا للاشمئزاز".
وهذه المرّة كان لافتًا المدى الذي ذهب إليه الموقف الأميركي الرسمي المعلن، حين تصدّى نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية فيدانت باتيل لأقوال سموتريتش المنكِرة وجودَ الشعب الفلسطيني، إذ لم يكتفِ بنفي دقَّتها، ووصفْها بالخطيرة والمُهينة، بل فنَّدَ فحواها الجوهري، حين أوضح أن "الفلسطينيين يملكون "تاريخًا وثقافة ثريَّين، والولايات المتحدة تثمّن شراكتنا مع الشعب الفلسطيني".
وبالرغم من هذا التنديد الواسع؛ إذ جاء مِن أقرب حلفاء دولة الاحتلال، فضلًا عن دول أوروبية مهمّة تتكرّر المواقف والتصريحات العنصرية، الخارجة عن المعهود من القواعد السياسية؛ الآتية من زمنٍ آخر والمستجيبة لمعتقداتٍ خاصة منغلقة، لا يأبه أصحابُها، كثيرًا، أو قليلًا، وهم تحت تأثير اندفاعاتهم التوسّعية الاستعمارية، وتحت زهوة الشعور بالغلبة، المجسَّدة في ائتلافهم الحكومي الأكثر يمينيةً، والمسنود بأغلبية في الكنيست، لا بالرأي العام الدولي، ولا بالتوقُّعات والاعتبارات الأميركية، ولا حتى بقانون دولتهم نفسه. لكن الجديد في المشهد هو انتقال تلك المواقف والتصريحات من هامش الحياة الإسرائيلية، حين كانت تأتي على ألسنة شخصياتٍ محدودة التأثير، ومحجَّمة الصلاحيات؛ لتقفز إلى صُلْب خطاب الحكومة، يعبِّر عنها، وفي محافل عامة، وعالمية، وزير على رأس وزارته.
قد يقال إن نتنياهو أشاد بإعادة سموتريتش صياغة تصريحاته الداعية إلى محو حوّارة. ولا ندري، كيف سيخرُج نتنياهو من هذا المأزق، والذي لا يبدو أنه سيكون آخِرًا؛ ذلك أن نفي وجود الشعب الفلسطيني قناعةٌ لا تقتصر على سموتريتش، وهي لا تبعد عن قناعات شاغل رئاسة الحكومة نفسه، وإنْ لا يذهب هذا في حماسته إلى ما وصل إليه وزير ماليّته؛ حتى يعبِّر عنها بهذا الوضوح المستفزّ، والصادم. ولكن نتنياهو يَصْدُر عن تلك القناعة، نهجًا سياسيًّا، كما كان من ابتهاجه باتفاقات التطبيع مع دول عربية، ضمن ما عُرِف باتفاقات أبراهام، حين كان يرى الحلّ مع الفلسطينيين لم يعد، عمليًّا، شرطًا لإبرام اتفاقات مع الدول العربية. ولو سئل عن الحل الذي يرى أن على الفلسطينيين قبوله لما تردَّد في تحديده بحدود إدارة ذاتية، بلا سيادة، ولا حدود، ولا سيطرة على الموارد.
بعيدًا عن التاريخ وسجالاته، أو افتراءات العنصريين من أمثال سموتريتش، التي لم تقنع حتى الإدارة الأميركية، يعكس الواقع المشاهَد السؤال، فورًا؛ ليصبح عن وجود شعب إسرائيلي؟ مع هذه الانقسامات الأيديولوجية والسياسية العميقة، بشأن هُويَّة الدولة والمجتمع، وعن بِنية النظام السياسي. وهي التي دفعت رئيس دولتهم، إسحاق هرتسوغ، إلى التحذير من كارثة حربٍ أهلية. فصحيحٌ أنّ هذه الأقوال الخارجة عن أيِّ أرضية مقبولة تستجيب لعقيدة عميقة قارَّة، ولكننا لا نستطيع عزْلها عن سياقها المأزوم، فهذه النقلة في الخطاب الاحتلالي اليميني المتطرِّف تهدف إلى تعظيم الخطر الخارجي الوجودي؛ لكي تخنِس، وتتهمَّش، أصوات القوى المعارِضة، المحتفظة بطابَعٍ آخر لـ(إسرائيل)، لا ينفرد فيها الصوتُ الديني اليميني، ولا ينفتح عليها الصراع مع الفلسطينيين والعرب، إلى هذه الدرجة، الأكثر شمولًا، والأكثر شراسةً.