لم تُثنه الانتقادات الدولية عن الإصرار على أقواله التي انطوت على عنصرية دفينة، "إيتمار بن غفير" المستوطن في الخليل، ذو الخلفية الكاهانية (نسبةً إلى مائير كاهانا، مؤسّس حركة كاخ، المصنَّفة، إسرائيليًّا، إرهابية، وهي حركة عنصرية تدعم طرد الفلسطينيين من أراضيهم)، الذي أصبح وزيرًا للأمن القومي، في حكومة نتنياهو، الذي يحظى سجلُّه بإدانات بالتحريض على العنصرية، ودعم الإرهاب، ويترأس حزب القوة اليهودية اليميني المتطرِّف، صرّح أخيرًا، "مستخدمًا المصطلح التوراتيَّ للضفة الغربية: "حقِّي وحقُّ زوجتي وأولادي في التجوُّل في طرقات يهودا والسامرة أهمُّ من حق العرب في الحركة"، وأضاف "بن غفير": "هذا هو الواقع، هذه هي الحقيقة، حقِّي في الحياة يسبق حقهم".
قوبلت هذه التصريحات بانتقادات وزارة الخارجية الأميركية، إذ قال متحدِّث باسمها: "ندين بشدَّة التعليقات التحريضية التي أدلى بها الوزير الإسرائيلي "بن غفير" بشأن حرية حركة السكان الفلسطينيين، في الضفة الغربية"، و"ندين جميع الخطابات العنصرية"، ودان الاتحاد الأوروبي تصريحات بن غفير، قائلًا: "قيم الديمقراطية (المزعومة) واحترام حقوق الإنسان تحتل مكانة مركزية في الشراكة بين الاتحاد الأوروبي و(إسرائيل)، بما في ذلك ما يتعلق بالأشخاص الذين يعيشون تحت الاحتلال في الأراضي الفلسطينية".
وبعد كلِّ هذه التنديدات والانتقادات من الخارج وفي الداخل، لم يتراجع بن غفير، بل أيَّده نتنياهو، إذ زعم أنّ (إسرائيل) "تمنح أقصى قدر من حرية الحركة (في الضفة الغربية) لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين"، وأضاف: "لسوء الحظ، يستغلُّ الفلسطينيون حرية الحركة لقتل نساء وأطفال وعائلات إسرائيلية".
اقرأ أيضًا: ابن غفير يترجم عقيدة مجتمع ودولة
اقرأ أيضًا: هولوكوست بن غفير!
وحين يضطر "بن غفير" إلى الدفاع عمَّا يصعب تبريرُه يلعب دور الضحية، المستوطنون لا يستطيعون ممارسة حياتهم الطبيعية... ثم هو لا يفوِّت سلاح اللا سامية، في وجوه المنتقدين ومحاولة وصمهم بكراهة (إسرائيل)، كما قال عن عارضة الأزياء الأميركية من أصل فلسطيني، بيلا حديد التي انتقدت تصريحاته العنصرية.
وهو يحاول أن يغالط بتظهيره الحقَّ في الحياة، مقدَّمًا على الحقِّ في حرية التنقُّل والحركة، لكن الفكرة المخبَّأة بغلالة شفّافة هي تفضيل حقوق المحتلِّين والمستوطنين، وهم الذين وجودهم في الضفة الغربية بحدِّ ذاته يعد اعتداء بحسب القانون الدولي، على حقوق الفلسطينيين ووجودهم، الأمر المتسق مع فكر هذا المتطرِّف العنصريِّ إجراميِّ المَنْحَى، فحتى وقتٍ قريب كان يعلق على حائط مكتبه صورة باروخ غولدشتاين، الذي ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل سنة 1994، وأدت إلى استشهاد 29 فلسطينيًّا، في أثناء تأديتهم صلاة الفجر وجرح عشرات.
هو يعبّر إذًا، عن فكرةٍ ذات تمظهرات ومفاعيل، حين تنضج الظروف لتفعيلها بالكامل، تفضي إلى إنهاء الوجود الفلسطيني في الضفة، بأساليب وأشكال شتَّى، إما بإلجاء قسمٍ منهم إلى الترحيل، بالتضييق عليهم واضطهادهم، وإما بتصفيتهم كما فعل مستوطنون مجرمون، تطالب مرجعياتٌ دينية متطرِّفة بإطلاق سراحهم، وَفْق ما جاء في صحيفة "يسرائيل هيوم" عن "أقوال حاخامات يعلنون دعمهم الإرهابي عميرام بن أويل، الذي أحرق عائلة دوابشة الفلسطينية في 2015، ويطالبون بالإفراج عنه، بالرغم من إقراره بالجريمة".
في المقابل، لا يخطر ببال "بن غفير" أن يقول شيئًا عن حياة الفلسطينيين، وممتلكاتهم، وأشجارِهم، عندما تنالها اعتداءات المستوطنين مرارًا وتكرارًا، لا يخطر بباله أن يؤسِّس لمثل هذه الحقوق بالتوازي، مع تنظيره عن حقوق المستوطنين، قصارى ما صدر عنه، وتحت الضغوط تصريحات مخفّفة، عن الحفاظ على القانون، بعد هياج المستوطنين واعتداءاتهم على الفلسطينيين، وتحت حماية جيش الاحتلال، وحرْقهم ممتلكاتهم في بلدة حوارة، جنوب نابلس، هذا مع علمه الطافح عن العقلية السائدة لدى المستوطنين بخصوص النظرة إلى الفلسطينيين، ووجودهم، على هذه الأرض، وبالرغم من علمه، ومشاركته في توجيهاتٍ دينيةٍ، وقوميةٍ، تستبيح حياةَ الفلسطينيين، وتمجِّد قاتليهم والمعتدين على حرمات بيوتهم، وعلى ممتلكاتهم، من مزارع ومتاجر، وحتى دور العبادة، وغيرها.
والصحيح أن "بن غفير" يدرك أنه لا يحتاج إلى نضال، لكي تنفَّذ هذه السياسة، لأنه يعلم أنها مترجمة فعليًّا، ومنذ وقعت الضفة الغربية تحت الاحتلال، وبوتيرة متسارعة متصاعدة، فصُوَر تكدس الفلسطينيين أمام حواجز الاحتلال تشغل مساحات من نشرات الأخبار، وصور سياراتهم المتتابعة التي يعطّل سيْرَها جنودُ الاحتلال لسبب أو من دون سبب، فضلًا عن منْع جنود الاحتلال، مرَّات عديدة، وصول سيَّارات الإسعاف إلى الجرحى الفلسطينيين، حتى مفارقتهم الحياة، مما هو موثَّق ومعروف لكلِّ متابع، لكن "بن غفير" إنما يريد تطبيع العالم والفلسطينيين والعرب مع هذه الحقيقة المَعيشة؛ ليكون الفصل العنصريُّ المتضمِّن شعورًا بالتفوُّق، حقيقة مسلَّمًا بها أو مقبولة، كما قالت منظمة بتسيلم وهي إسرائيلية غير حكومية: "هذا هو الواقع الذي نراه على الأرض، كل يوم منذ خمسة عقود، حقوق اليهود أكثر أهمية من حقوق العرب هذا هو شكل الفصل العنصري".
ومن المهم ألا تُحصَر الانتقادات بهذا الوزير الذي لا يبدو هامشيًّا في حكومة نتنياهو، وإنما ملاحظة البيئة السياسية العامة المحيطة به والحامية له، كما البيئة الأيديولوجية، التي تمثِّل أرضية مشرعِنة لمثل هذه المواقف العنصرية السافرة، وأن ذلك كله وغيره، لا ينفصل عن السعي الحثيث نحو تكريس ضمّ الضفة الغربية فعليًّا، وتطبيق القانون الإسرائيلي عليها، وعن سعْي حكومة الاحتلال إلى رفع أعداد المستوطنين، وتعزيز وجودهم الاقتصادي، وبناهم التحتية، وفق ما كشفت تقارير إعلامية إسرائيلية أخيرًا، عن تقديم قادة المستوطنين "خطّة لزيادة عدد (المستوطنين) شمال الضفة الغربية"، إلى مليون مستوطن، بحلول عام 2050، وذكر موقع "واي نت" الإسرائيلي أنه قدمت الخطّة لنتنياهو، وتتضمَّن إنشاء مدن جديدة، ومناطق صناعية توفِّر فرص عمل، ومستشفى ومطارًا، هذا مقابل تحجيم حركة الفلسطينيين، في شوارع الضفة الغربية، وتضييق سبُل العيش عليهم فيها.
وعليه، يتسابق المستويان الكلامي والفعلي، ويعزِّز كلُّ واحدٍ منهما الآخر لإكمال الدائرة، فلا ثمَّ كوابح دولية أو عربية رسمية كافية.