يكاد لا يساور المتابع لنمط التعاطي الإسرائيلي مع المنظمات الإنسانية، ومنها الدولية، أي شك في أن خللاً ما في منهجية تطبيق القوانين يعزى إلى التوازنات السياسية، إضافة لطريقة تعاطي الفكر السياسي الغربي، وما يشوبه من تناقضات واضحة أدت في النهاية لاستسلام أطراف عدة لمقولة أن "(إسرائيل) هي دولة فوق القانون".
وتمخض عن تجاهل دول صنع القرار في المجتمع الدولي –على رأسها الولايات المتحدة-، وتغاضيها عن تنفيذ (إسرائيل) للقوانين والمقررات التي تصدرها المنظمات الدولية، إلى تجميدها ومن ثم عدم تطبيقها، حيث يظهر ذلك بشكل جلي في قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة التي صدرت عنها خلال العقود الماضية، على رأسها تلك التي تتضمن مطالبات بإعادة حقوق الشعب الفلسطيني، وإنهاء الاحتلال، ووقف الاستيطان وكافة أشكال الانتهاكات بحق الفلسطينيين، على الرغم من كونها من أبسط قواعد الحقوق الآدمية التي تتفق عليها كافة المعاهدات الدولية.
وشجع ذلك كيان الاحتلال في التصرف كعصابة وليس كدولة، من خلال إطلاق يدها في قتل المدنيين، واستيلائها على الأرض والموارد والممتلكات، والتضييق على البشر وحصارهم وتجويعهم، وتزييف الحقائق، وممارسة سياسة تمييز وفصل عنصري، وسرقة الثقافة والهوية للشعب الفلسطيني بعد تشريده عن أرضه وتحويل الملايين منه إلى لاجئين في مختلف بقاع الأرض.
ويدلل على دعم وتشجيع صناع القرار في العالم لـ(إسرائيل) كي تبقى فوق القانون، على سبيل المثال لا الحصر، انتخاب الجمعية العامة للأمم المتحدة لها لترأس اللجنة القانونية، والتي تعد أهم اللجان الست التابعة للجمعية، وذلك في يونيو 2016، بعد فترة قليلة من إعلان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة (إسرائيل) من بين الدول الأسوأ في الاعتداء على حقوق الإنسان في العالم، واتخاذه أربعة قرارات تدين الاحتلال حينها.
فكيف يستقيم ترؤس (إسرائيل) للجنة دولية يتركز عملها حول تعزيز القانون الدولي وحماية حقوق الإنسان، في حين أنها تحتل أراضي الغير، بل إنها دولة الاحتلال الوحيدة على وجه الأرض، وتاريخها منذ تأسيسها في انتهاك وخرق القوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية مستمر، ويتواصل بشكل صارخ؟؟
ولا تتوقف انتهاكات (إسرائيل) عند ضربها عرض الحائط بالقرارات الصادرة عن المؤسسات الأممية، بل لم يسلم منها حتى مؤسسات العمل الإنساني والخيري، على الرغم من أن الكثير منها له صفة دولية، أو يتبع لدولة أجنبية لها علاقات قوية مع الدولة العبرية، وهي بالتالي ليست عربية أو فلسطينية، ويظهر ذلك من خلال ممارسة مختلف أشكال التضييق بحق عمل هذه المؤسسات، كاعتقال أعضائها والتشهير بهم وبمؤسساتهم، وإطلاق التهم جزافاً دون أي سند أو دليل قانوني، وذلك بهدف ثنيها عن تقديم الدعم الإنساني لأبناء الشعب الفلسطيني الذي يعاني ويلات الاحتلال، ولاجئيه الذين يقتات غالبيتهم على المواد الإغاثية.
حرب دولة الاحتلال ضد مؤسسات العمل الإنساني والخيري اتخذ أشكالاً عدة، كما أنه لم يميز بين مؤسسة إنسانية فلسطينية أو عربية أو دولية، وقد وصل ذروته في الاستهداف المباشر لطواقم هذه المؤسسات، حيث شهدت الحروب الأخيرة الثلاث على غزة استهدافاً لموظفي الإنقاذ والإغاثة العاملين في الهلال الأحمر الفلسطيني، وسقط على اثر ذلك العديد منهم بين شهيد وجريح، كما تم تدمير العديد من عربات الإسعاف خلال قصفها بشكل مباشر أثناء الغارات على القطاع، حتى وصل الأمر بتوجيه نداءات للضغط على الاحتلال بهدف تحييد الطواقم الإنسانية خلال الحرب.
ولا بد هنا من الإشارة إلى شهادات المسعفين عن تجربتهم خلال الحروب على غزة، والتي أدلوا بها لوسائل الإعلام، وأكدوا فيها على استهدافهم المباشر بهدف منعهم من الوصول للضحايا الذين قضى العديد منهم نتيجة عدم إسعافه، ما يؤكد على همجية هذا الاحتلال من خلال ممارسته لهذه الانتهاكات دون أن يرف له جفن، فهو يدرك تماماً بأن هذه الأفعال تشكل خرقاً فاضحاً لاتفاقية جنيف الرابعة الداعية إلى حماية عمل المسعفين أثناء الحرب واحترام دورهم الإنساني.
محاربة مؤسسات دولية
ومن المهم أن نعرج على بعض الأمثلة التي تظهر مضي الاحتلال بعيداً في انتهاكاته وعدائه الصريح لمؤسسات العمل الإنساني، وعدم اكتراثه باحترام القيم الإنسانية التي تمثلها حتى للدولية منها، من بينها ما جرى مؤخراً من ممارسة (إسرائيل) والولايات المتحدة لضغوط أسفرت عن إحباط مشروع في الأمم المتحدة لزيادة موازنة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا(.
ولهذا التوجه بالغ الخطورة كونه يستهدف الملايين من اللاجئين الذين يعيشون على مساعدات الوكالة، وتنصل (إسرائيل) الواضح من التزاماتها باعتبارها قوة احتلال، حيث يتحتم عليها أن تتحمل المسؤولية الاجتماعية والمعيشية لهؤلاء الذين شردتهم عن قراهم ومدنهم، بحسب القانون الإنساني الدولي.
ويعرف القاصي والداني بأن (إسرائيل) تتحمل كافة المسؤولية عن استمرار معاناة أكثر من ستة ملايين لاجئ فلسطيني موزعين في مخيمات اللجوء في الداخل والشتات، بينما في الضفة الغربية وقطاع عزة ما زال هنالك أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في ٣٠ مخيما تفتقر لأبسط مقومات الحياة.
والاتهامات التي تتذرع بها (إسرائيل) في عدائها الواضح للوكالة بأن جزءاً من ميزانيتها يذهب لفصائل المقاومة في غزة ليس جديداً، فقد اعتادت تلفيق الاتهامات لكل من يقدم الدعم للشعب الفلسطيني مهما كان موقعه وانتماؤه، وقد عبرت غير مرة عن أمنياتها في تصفية الوكالة بشكل كامل، وإنهاء عملها كمغيث للاجئين، حيث يأتي ذلك في إطار سياسة العقاب الجماعي واستمراراً لعدوانها على أبناء الشعب الفلسطيني.
وتتكرر الاسطوانة الإسرائيلية في عزف لحنها النشاز الهادف لتشويه الوكالة من حين لآخر على رغم تأكيد الأخيرة، في أكثر من مرة، بأنها تقدم الدعم لكل لاجئ فلسطيني دون النظر لانتمائه السياسي، كما أكد الناطق الإعلامي باسمها في قطاع غزة، عدنان أبو حسنة، بأن الوكالة "لديها نظام رقابة صارم، موضحاً بأن ميزانية الاونروا موجودة على شبكة الانترنت وهناك رقابة من قبل الدول المانحة على كل هذه الأموال وأين تتوجه".
ويأتي اعتقال (إسرائيل) لمسؤولين في مؤسسات دولية، خلال الأعوام الماضية، في إطار تشديد الحصار على أبناء الشعب الفلسطيني عامة، وفي قطاع غزة بشكل خاص، حيث تهدف إجراءاتها التعسفية لتعميق الأزمة الإنسانية في القطاع المحاصر منذ أكثر من عشرة أعوام.
فاعتقال محمد الحلبي، المسؤول في مؤسسة (وورلد فيجن) الإنسانية الدولية، في يوليو 2016، لا يعد كونه حلقة في سلسلة ممارساتها لخنق قطاع غزة، والديباجة جاهزة في تبرير ممارساتها التعسفية "دعم حركات المقاومة وعلى رأسها (حماس) من خلال تسريب مبالغ مالية للحركة"، إلا أن "سيلفيا هولتن"، المتحدثة باسم المؤسسة في ألمانيا، أكدت، في تصريح صحفي في 8 أغسطس 2016، أن موازنة المؤسسة في غزة في العقد الماضي كله بلغت 22.5 مليون دولار.
وقالت خلال حديثها "إن هناك فجوة كبيرة بين الأرقام التي تتحدث عنها الحكومة الإسرائيلية وتلك التي نعرفها"، بعدما زعم جهاز الاستخبارات الإسرائيلية الداخلية (شين بيت) أن محمد الحلبي حوّل نحو 7.2 ملايين دولار من أموال الجمعية لحماس على مدى خمسة أعوام، بينما تقول المؤسسة إن المبلغ يوازي نحو 60% من مجمل موازنتها لقطاع غزة.
وقد أنصف تحقيق حكومي أسترالي المؤسسة بعدما أكد عدم توفر أي دليل على قيام منظمة (وورلد فيجن) الأميركية الخيرية بإساءة استخدام أموال دافعي الضرائب في قطاع غزة، وزيادة على ذلك تأكيد أحد المسؤولين في المؤسسة في تصريح صحفي، إن الاتهامات الإسرائيلية "غير منطقية ولا واقعية"، موضحاً أن آليات الصرف في المؤسسة "مضبوطة وتخضع لرقابة مالية من مسؤولين أجانب ولا يستطيع المدير إنفاق دولار واحد خارج هذه الآلية، إلا أن المؤسسة أوقفت مشاريعها الإنسانية في القطاع لحين الانتهاء من تحقيق داخلي خاص بها، وانتظار نتائج محاكمة الحلبي في المحاكم الإسرائيلية.
وفي السياق ذاته، يأتي الإفراج عن وحيد البرش أحد مهندسي وكالة الأمم المتحدة للتنمية "UNDP" في قطاع غزة، بعد اعتقال دام 6 أشهر (اعتقل في أغسطس 2016)، كتأكيد آخر على عدم استناد الاتهامات الإسرائيلية للوكالة الدولية المتمثلة في "تحويل مشاريع أممية لصالح حركة حماس" لأية أدلة حقيقية، بل أن اتهاماتها الجوفاء تراوح مكانها وليس لها أن تتخذ أية صفة قانونية.