فلسطين أون لاين

الأمل..صناعة "غزّية"

يسرد لنا أبناء غزة قصصاً عن أحلامهم المؤجلة، وما تحويه من إصرار أسطوري على تحقيقها، رغم الحصار والحروب المتتالية، وكأن الغزي يقطع عهداً منذ ولادته على الاقتران بحالة عشق لتحدي الأهوال والمصاعب التي سيعيشها لاحقاً. 

لم يصنع الاحتلال من الغزيين حالة يائسة، ومحبطة، تكره زمانها وتاريخها، ومن المؤكد بأن مرد عدم نجاح الاحتلال في ذلك، يعود إلى إيمان أهالي القطاع المحاصر بحقهم في الحياة، وتبنيهم للأمل مفهوماً وعقيدة، كيفما كان، وأينما حل. 

وتعلمنا غزة في كل قصة تقصّها دروساً، تحمل عنواناً عريضاً يشير إلى أن القهر الذي تمارسه القوى الغاشمة، لا يواجه إلا بإثبات إرادة الحياة، والتأكيد على الحق في الفرح، والحلم، والارتقاء، وبلوغ الأمنيات. 

غزة حالة شغف بإثبات الوجود لإنسان لم يسترح من آلامه، ولم ينتظر حتى تشفى جروحه، يمارس الحلم أولاً بأول، ولا ينتظر إذناً من أحد، ولا يقبل بأن يلقنه أحد طريقة الفرح المثلى، بعدما صنع لنفسه فرحه الخاص، بنكهته الخاصة، رغماً عن مأساته وجلاديه. 

في كل حرب تذهب إليها غزة تعود بحكايات تكتنز بمعاني التحدي والصمود، وكأنها أسطورة الحياة التي تغيب لتعود بصورة متجددة، إحدى هذه الحكايات ما بات يعرف بقصة "صاحبة الفستان الأحمر"، في الحرب الأحدث على القطاع، لفتاة تتحضر لحفل زفافها، المتزامن مع أول أيام العدوان، وكعادة العروس الفلسطينية التي تستغرق استعداداتها أياماً عدة لتظهر في ليلة العمر في أبهى صورها. 

نجحت العروس في الحصول على فستانها من المتجر بأقل سعر، بفضل جهودها في "المفاصلة"، وإقناعها البائع في مجادلة الشراء، وكانت فرحتها غامرة باعتباره نصر يحسب لها، بعد نجاحها في التوفير من ثمن الفستان، وبالتالي تخفيض كلفة الزفاف برمته. 

سبقت فرحة شيماء أبو عوف، صاحبة الفستان الأحمر"، والطالبة في السنة الثالثة بكلية طب الأسنان في جامعة الأزهر قذائف وصواريخ العدوان النكدة، التي حرمت العروس من فرحتها، وكأن المعتدي قد قرأ لغة شفاه شيماء التي قالت لخطيبها بعد ظفرها بالفستان: "سنكافحُ معاً لنقيم بيتنا الصغير بأقل التكاليف، فإذا ما قصفه الإحتلال لن نحزن عليه كثيرا".  

لم يكتمل فرح الشهيدة شيماء، وبقي الفستان الأحمر معلقاً في المتجر ينتظر قدوم صاحبته العروس لتستلمه، لتصبح "عروس غزة" كما يحلو للبعض تسميتها أيقونة لملحمة تجلى فيها تخليد إرادة الحياة، ومقاومتها الأمينة لبشاعة الجلاد وقبح جرائمه. 

وفي السياقات ذاتها تسرد غزة قصة العروس "رجاء" التي جاءها خبر استشهاد عريسها "أحمد المصري" الذي طمح كثيراً كي يكون يوم زفافه أول أيام العيد وليس ثانيه، مستعجلاً الفرحة، وقد ملأ جميع بطاقات عرسه بعبارة "عيدنا عيدين". 

أما حكاية "رياض اشكنتنا" الموغلة في المأساوية، التي يرويها الرجل الذي لم يشف من ذهول تفاصيلها، بعدما وضعت غارة مجنونة نهاية لحياة غالبية أفراد أسرة رياض، الأم وطفليها، التي احتمت بإحدى غرف البيت، وضمت في حضنها طفليها اعتقاداً منها بأنهم في مأمن، لتنتشل بعدها فرق الإنقاذ من تحت أنقاض المنزل رياض وابنته المتبقية "سوزي" كناجيين وحيدين من المجزرة. 
ولـ"هدى الخزندار" قصتها الملحمية في افتداء ابنتها الصغرى "ملك" من الموت، التي قدمت نفسها بديلاً للشهادة بعد أن جعلت من جسدها واقياً يتلقى الشظايا عن ابنتها، رحلت هدى تاركةً طفلةً رضيعة باكيةً طوال الوقت، لا تقبل بغير أمها بديلاً لإرضاعها. 

تلكم غزة، وتلك قصصها الغنية بمتوالية الحياة مقابل الموت، والصبر في تحمل الألم، والجمال في ندّية قبح العدوان، والفرح في مواجهة سارقي الفرح، فمحال على المحتل سرقة الأمل، وإطفاء جذوته في أرواح الغزيين، فهم صنّاعه..وهم عليه محافظون.

المصدر / فلسطين أون لاين