فلسطين أون لاين

الاحتلال عاقب والديه بـ 7 زيارات طيلة عقدين..

تقرير المحرر "يوسف مسعود".. فرحةٌ تُضمّد جُرحين

...
الأسير المحرر يوسف مسعود
غزة/ يحيى اليعقوبي:

نسائمُ الحرية وهواء قطاع غزة كان يزيد من نبضات الفرح في قلبه على غير العادة، يتشوق لتقبيل رمال مدينته "رفح"، ولمعانقة والديه اللذين حرمه الاحتلال من زيارتهما طوال فترة أسره البالغة 20 سنة، يستعد لنفضها وارتداء ثوب الحرية.

لحظات فرح عاشها الأسير يوسف مسعود قبل أن تقتلها أوامر ضابط إسرائيلي له بالمكوث أربع ساعات أخرى محتجزًا إلى حين صدور قرار من المحكمة الإسرائيلية بالإفراج عنه، بسبب اعتراض عائلة الضابط الإسرائيلي المفقود في غزة هدار جولدن على تحرره. 

مرت أربع ساعات بانتظار وترقب، رسمت أفكاره مخاوف عديدة، كانت المحكمة الإسرائيلية تحاول إيجاد مُسوّغ قانوني لإعادة اعتقاله، عادلت ساعات الانتظار هذه، عشرين سنة أمضاها داخل الأسر، وضع يده على قلبه وحبس أنفاسه خشية "الغدر" الإسرائيلي، وعندما لم يجدوا مُسوّغًا سمحوا له بالذهاب إلى الحرية نحو قطاع غزة.

فُتحت بوابة الحاجز، وهرول المحرر يوسف مسعود حينما وصل إلى الجانب الفلسطيني من المعبر نحو عائلته ووالديه، الذين تجمّعوا لاستقباله، وغاب في عناق طال انتظاره، حضَرته دموع الفرح، استبدل ملابسه وارتدى بزةً عسكريةً اعتقل لأجلها، ليُوجّه رسالة للاحتلال أنه "لم يتخلَّ عن طريق كُتب بدماء الشهداء وتضحياتهم".

ملامح متغيرة

"صدقًا، حتى الآن غير مستوعب التغيُّر الذي حصل، لأنّ ذاكرتي امتلأت بمواقف ومشاهد لما قبل اندحار الاحتلال عن غزة، أتحدث عن عشرين عامًا من الغياب القسري، وليس يومًا أو يومين، هدمت عمارات بفعل الحروب وبنيت أخرى" وكأنّ ملامح القطاع تغيّرت في عيون المحرر "مسعود"، وهو يصف لصحيفة "فلسطين" هذا الفارق الزمني بين عقدين من الزمن.

يُعلّق بتهكُّم ممزوج بمرارة الغياب الذي جعله لا يتعرف على الأماكن التي كان يحفظها شبرًا شبرًا: "قلت لعائلتي: لو تركني الاحتلال على معبر بيت حانون/ إيرز وحكولي: روح لحالك، ما بعرف أروح لأنّ التغيير مش بسيط".

لا زال صوته يمتلئ بالفرح الذي يغمر قلبه: "فرحة الحرية لا توصف، الحمد لله لأني رجعت للأهل ورجعت لأحضان وطني، لن نبدل ولن نغير، وما قدمناه بالنسبة لأسرى أفنوا زهرة أعمارهم قليل، والقائمة تطول عندما نذكر قامات الأسرى".

تفترش ذاكرته بمشاهد كثيرة لحواجز الاحتلال في أثناء وجود المستوطنات الإسرائيلية بداخل قطاع غزة، يتحرك بين ممرات الذاكرة عائدًا إلى الوراء عشرين سنة: "كانت تعيق حركتنا، وتنغّص حياتنا، وكوني أنتمي لحركة حماس وللمجموعات الأولى لكتائب القسام، فكنت حلقة وصل بين محافظات الشمال والجنوب للقطاع، وأتنقّل عبر الحاجز".

في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2003، مع افتراش الظلام، كان مسعود على موعدٍ مع حدث غيَّر مجرى حياته، يخترق جدران ذاكرته: "كنت عائدًا من غزة إلى منزلي برفح، فأُغلق الحاجزُ فجأة، وجرى اعتقالي واقتيادي لسجن عسقلان، وخضعتُ لتحقيق قاسٍ، استمر 93 يومًا، خرجت صابرًا صامدًا، زاد بفضل وجود القامات الكبيرة من الأسرى الذين احتضنوني وكانوا نِعم الأخوة".

حرمان الزيارة

زيارة الأهل للأسير هي حلقة الوصل مع العالم الخارجي، وشمعة فرح تُوقدُ على ملامح الأسير بين عتمة الظلام، لكنّ "مسعود" حرم من زيارة والديه اللذَين سمح لهما الاحتلال بزيارته فقط سبع مرات طيلة عقدين، لم تكفِ لإخماد نيران الشوق التي اشتعلت في قلبيهما بين تلك اللقاءات المتباعدة في مُددها.

على الرغم من أنّ رفاق الأسر كانوا بلسمًا له داخل الأسر، لكنّ حسرة الحرمان من الزيارة كانت كبيرة، يقول بصوت يسكنه قهر يختزنه في قلبه: "كانت حسرة تملأ القلب، عندما تجد الأسرى تزورهم عائلاتهم، وأنت محروم من رؤية والديك، كما أنهم يُحضرون لهم احتياجاتهم وأنت محروم، فكان يترك بداخلك غصّة، وهذا احتلال فاشي ليس غريبًا عليه، صبَرنا ولم نتغير".

في واقع صعب يُعزل فيه الأسرى، كان البديل عن الزيارة صعبًا له: "كنت أتواصل مع الأهل عن طريق بعض المحررين، وكنا نتبادل السلام عن طريق الراديو، كان صوت والدي يُعوّض قليلًا أثر الحرمان من الزيارة".

مثّلت الرسائل الورقية في سنوات الأسر الأولى، إحدى أهم وسائل تواصله مع الأهل، الصعب فيها أنها كانت تستغرق فترة شهرين حتى تصل إلى الأهل أو تصله رسائلهم.

تعج ذاكرته بأحداث لم يعرف بها إلا بعد فترة، منها: وفاة جدته عام 2006، وعلم بذلك بعد ثلاثة أشهر، ثم تقلّص تأثير الرسائل مع بدء دخول الهواتف المهربة، التي استطاع من خلالها الأسرى إجراء مكالمات هاتفية مع عائلاتهم، وسماح الاحتلال لهم بمشاهدة بعض المحطات التلفزيونية الأرضية.

"مش سامع الصوت!" استدار والده نحو مجندة إسرائيلية تقف على رأسه في آخر زيارة لابنه "يوسف" عام 2014، فنقلته إلى غرفة أخرى، حاول الإنصات لصوت ابنه، دون جدوى وذلك بعد خمس دقائق من الزيارة التي يفترض أن تستمر 45 دقيقة، فطلبَت منه مرافقتها للضابط، الذي بدوره طلب منه المغادرة، وقال كلمات لا زالت ملتصقة بذاكرته: "ترجعش تزور ابنك".

لم يبذل والده جهدًا كبيرًا في إحصاء عدد المرات التي سمح فيها الاحتلال بزيارة ابنه؛ بسبب قلّتها في مستهل حديثه لصحيفة "فلسطين": "زرته مرتين في سجن عسقلان، وثلاث مرات في (إيشل) ومرتين في نفحة".

اقرأ أيضًا: أسير محرر يدعو لبرنامج وطني مساند للأسرى في معركتهم ضد الاحتلال

على الرغم من قلة تلك الزيارات، إلا أنه عاش في كل واحدةٍ منها معاناة مختلفة تجثم على ذاكرته: "كانوا يُنغّصون حياتنا، بتفتيش مُذل يطلبون خلاله خلع الحذاء والسترة، ويمشي وراءك مجندون ومن أمامك حتى باب السجن، يتركوننا في ساحة تحت لهيب الشمس بانتظار السماح لنا، أحيانًا كان يحلُّ المساء دون السماح لنا بالزيارة".

ينفض تلك الذكريات الأليمة عن قلبه بكلمات يغمرها الفرح: "الحمد لله الآن هو بيننا، واجتمعنا به ورجع لنا، ونسينا التعب والانتظار، ضمّد جراح فقدنا لشقيقيه الشهيدين حسين ووليد".

جرحا الفقد 

في أثناء متابعته للراديو عام 2014، أنصت مسعود لخبر عاجل تلاه مذيع الأخبار، وأعلن استشهاد شقيقه حسين مسعود، فتجرّع مرارة الصدمة الأولى، زاد قساوتها بعده عن مراسم التشييع، وبعد أربعين يومًا من استشهاده ولا زال جرح الفقد غائرًا في قلبه حفر الحزن أخاديد عميقة بداخله، بعد استشهاد شقيقه "وليد" أحد أفراد النخبة في كتائب القسام في أثناء تنفيذ عملية أسر الضابط هدار جولدن، عزاؤه فيها أنه "استُشهد لأجل الأسرى".

عندما اعتقله الاحتلال لم يزد عمر شقيقه وليد عن أحد عشر عامًا، كبر الطفل على معاناة شقيقه، فكان كلّ همّه العمل على تحريره من الأسر، يحضره وعدٌ قطعه "وليد" لأمه قبل تنفيذه للعملية: "بإذن الله راح أخطف ضابط إسرائيلي حتى أروّح أخوي يوسف والشباب اللي معه".

يمتلئ صوته بالفخر والاعتزاز بملحمة بطولية سطّرها شقيقه: "صدق الله فأكرمه بخطف ضابط، لأنه كان يتابع شؤون الأسرى، ويعرف معاناة شقيقه عن كثب، خاصة أنه كان يتأمل أن يُفرَج عني بصفقة وفاء الأحرار عام 2011، وكان اسمي موجودًا، لكن في الجولة الأخيرة رفضه الاحتلال، الرفض كان صعبًا لكني صبرت".

لم تكتفِ إدارة سجون الاحتلال بحرمان "مسعود" من زيارة الأهل، بل حرمته من "احتفال الحرية"، والذي يعقده الأسرى فيما بينهم عندما يتحرر أحدهم، فقد نُقل قبل اليوم الأخير من فترة حكمه من سجن "نفحة" إلى "عسقلان"، وعزل وحيدًا وعاشَ تلك الفرحة منفردًا قبل أن تصبح صاخبة حينما حطّت قدماه القطاع.

من بوابة الذاكرة يعود إلى السجن، متحدثًا عن يومياته داخل الأسر، "كان يبدأ يومنا بصلاة الفجر وقراءة الأذكار والقرآن، ثم الخروج لممارسة الرياضة، بعد ذلك نجلس للتثقُّف والتعلم والمطالعة ونحن أبناء الحركة الإسلامية وقتنا مليء داخل السجون، فحصلت على بكالوريوس في التاريخ من جامعة الأقصى، وآخر في الخدمة الاجتماعية من جامعة القدس المفتوحة".

بعد تحرره توجَّه نحو القبور لزيارة أصدقائه الأوائل الذين أصبحوا قادة المقاومة واستُشهدوا وهم على درب النضال والجهاد، زار قبر شقيقه حسن، وقبور القادة بكتائب القسام رائد العطار ومحمد أبو شمالة، وقبر رفيقه القائد بسرايا القدس الشهيد خالد منصور.