حكاية شغف إسحاق الحروب بجمع القطع الأثرية بدأت بجرة ماء من الفخار، كسرت بيده أيام طفولته، فسارع لدفنها في جدار منطقة قريبة من بيته ليخفيها عن والدته.
فحينما كان في السادسة من عمره في عام 1947 عامًا، كسر إبريقًا فخاريًّا أزرق اللون، استخدمته العائلة للشرب والوضوء وماء الخبز الذي تعجنه أمه.
يعرض الحروب (81 عامًا) هذا الإبريق اليوم في متحف قلعة مراد للآثار والتراث الفلسطيني جنوب بيت لحم، بعدما عثر عليه بعد سنوات طويلة في حفريات أجريت بالمكان.
جولة افتراضية
في جولة افتراضية عبر تطبيق "واتساب" جاب الحروب غرف متحفه الخاص في بيته وهو جزء يسير مما جمعه خلال 60 عامًا من البحث والتنقيب، إذ جمع نحو 10 آلاف قطعة، ليؤسس أكبر متحف فلسطيني يضم حقبًا زمنية متعددة، غالبيتها عثمانية.
قدم الرجل المسن شرحًا مفصلًا عن العشرات من القطع التي يحفظ تاريخها كما يحفظ اسمه، مبينًا أنه في عام 1958 بدأ في تسجيل الحياة الاجتماعية في الخليل عبر جمع وثائق الزواج والطلاق والميلاد وغيرها، إلى جانب جمع القطع التراثية.
الحروب قبل أن يكون مؤرخًا وجامعًا للتراث، كما يصف نفسه، فقد عمل في الزراعة ورعي الأغنام إلى جانب تدريس الإنجليزية. كل تلك الخبرات والقطع جمعها في كتاب "أطلس التراث الريفي الفلسطيني" الذي ألفه.
في جولة توقف عند الأثواب الفلسطينية المطرزة التي خصص لها زاوية، وعرض أقمشة الحرير بألوانها المختلفة، والخيوط الحريرية التي استخدمتها النسوة في حياكة أثوابهن. لم يكتفِ بذلك بل حصل على الميزان الذي استخدم في وزن الحرير، وقطعة "الملوي" التي كانت تلف عليها خيوط الحرير.
يتحسر الحروب على تلك الأيام التي تعبر عن أناقة السيدة الفلسطينية، قائلًا: "حرام على الشعب الذي يلبس حريرًا أن يتهجر من بلاده".
وحينما تزور المتحف يجذبك شكل هودج مربّط بأمعاء الحيوانات، هو القطعة الوحيدة والفريدة الموجودة لديه في كل فلسطين، إلى جانب العديد من أدوات أصحاب المهن والحرف قديمًا، كالحلاق، والنجار، ومصلح بابور الكاز، وبائع السوس، وأدوات استخدمت في إشعال النار، وأجراس استخدمها الرعاة كـ"الطباش"، و"القرقاع" وأخرى مختلفة الأشكال.
ويضم متحف الحروب كذلك أدوات تخزين الدقيق كالقوطة"، والخابية، والمِجْربة التي كانت توضع فيها حبات البن، والمِحْماس التي كان يتم تحميص القهوة به على النار، والمهباج الذي تدق فيه.
ومن الأشياء النادرة التي توجد في المتحف أيضًا فانوس للإنارة يعود إلى عهد صلاح الدين الأيوبي، وختم البركة العثماني والشمعدان، وهو عبارة عن فخارة زاهية الألوان يركب عليها الشمع وترقص بها النسوة في الأعراس، والمجلخ وهو أداة لصيانة السكاكين وجعلها أكثر حدة وقد انتقل به صاحبه من أفغانستان إلى إيران والعراق ثم الأردن والقدس أوائل القرن الماضي.
وفي متحف الحروب أيضًا عقد زواج يعود لعام 1198 هجري، و"أغلى قطعة كانت تلبسها العروس في ليلة الحناء تتكون من 2600 قطع فضية توضع على الرأس وتسمى، وقات الدراهم".
ويلفت إلى أنه قسم تلك القطع على متاحف متعددة، أبرزها "المتحف الوطني التراثي الفلسطيني" في بيت لحم، قائلًا: "بعد هذه السنوات الطويلة أريد أن أحافظ على تلك القطع من الاندثار والسرقة، لذلك وضعتها في عدة متاحف منها في رام الله، وأريحا، وبيت لحم، والقليل في بيتي".
التراث الشفوي
ولا يتوقف الأمر عند التأريخ وجمع التراث المادي، فذاكرة الحروب حية بعشرات الأهازيج والأغاني التراثية المنقولة شفويًّا، التي لم تقيد في كتب وأغلبها باللكنة البدوية الأصيلة، يغني فيها للعروس، والقهوة، والرعي، والزراعة وغيرها.
ويتقن الحروب العزف على الآلات الموسيقية القديمة التي تعلمها في أثناء رعيه للغنم، إذ عزف خلال حديثه على آلة المجوز، وغنى "جفرا ويا هالربع بين البساتيني" على الشبابة، وختمها بآلة الربابة.
جمع الحروب هذا التراث الكبير على نفقته الخاصة، ولم يكن الأمر سهلًا عليه، "فراتبي كمعلم لم يكن يكفي لأسافر وأبحث عن القطع التراثية وأقتنيها، لذا كنت أنتج بعض المشغولات اليدوية التراثية وأبيعها لكي أكسب مالًا إضافيًّا وأنفقه على شراء كل ما هو تراثي قديم".
ويكشف أنه يسعى حاليًّا لتدوين النوتة الموسيقية للأهازيج والأغاني التراثية، والأمثال الشعبية، والموروث الشفوي، بين دفات موسوعة فلسطينية شاملة.