فلسطين أون لاين

الثقب الأسود

كانت عيناه في هذا اليوم غير التي تراني في كل حين.. ورأسُه الذي يُطأطِئ الآن أمامي ليس ذلك الذي ينكفِئ على صدرِه في كل مرة.. هذه المرة كان يبدو أنّه يحوي الشيء الكثير!

طال الصمتُ بيننا في ذلك اليوم حتى أنطقه شيءٌ غير معلوم، وعلى هيئتِه الموصوفة تلك استدام الوضعُ طيلة حديثِه، فلم ينظرني ولم يلتفت، غير أنّ كلامَه انطلق كسيلِ لا يُوقفه سدّ "أتعلم يا صديقي أنّي لم أتلمّس الحُبَ في نفسي حتى الآن؟! أنا على عمري هذا لا أجد في قلبي ما لا يعدله المثيل.. كل الناس عندي لهم بدائلٌ لذا لا أظنّ أنّ أحدًا قد يختصّني في نفسِه بشيء. حتى أنت.. لا أعلم مَنْ مِنّا أخلصُ في صدقِه مع الآخر!

لم تكن مشكلتي يومًا أنّني لا أشعر، بل كانت أنّني أشعرُ بإفراط.. أشعر أكثر من اللازم كما قال أحدُهم. أعلم أنّي مُوغِلٌ في ذاتي كثيرًا حتى أنّي أهملتُ الموضوعَ بأكثرِ مما ينبغي.. وأعلمُ أنّني نظرتُ إلى الموضوعِ حتى ألِفتُ النظرَ إليه دون انخراط. ولكنّي لستُ أدري هل كان ذلك لسعةٍ في النفسِ لا تنتهي، أم لأنّي قد ضِقتُ ذرعًا بكلِّ شيء! أتدري؟ هذه الذات لا تعدو كونها ثُقبًا أسودًا يبتلعك دون مقاومة، غير أنّها لا تجذبك من بُعد.. أنت فقط من يذهب إليها حين ينكؤك الوجع.

أتعلم؟ أنا أُحِبُّكَ. أُحِبُّكَ لأنّي لا أملِكُ الكثيرَ من الخيارات، غير أنّي حين أفعلُ فإنّي أُمْعِنُ في القُربِ حتى تكونَ أنتَ ثُقبيَ الأسود البديل.. لكنّك لا زِلت تعجزُ عن الجذبِ ولا زلتُ أعجزُ عن الاقتراب! 

أتدري أين المأساة؟ إنّها في معرفتي بأنّي أحتاجُ الخروج وبأنّ هذا الثقبَ لا يجذب ولا يبتلع، فقط أنا من لا يهوى الفِرار.. أعلمُ أنّه يُزعِجني الضوء، ولكنّه لا إثم عليه إذا اعتادت عيناك ونسَ الظلام!

يا صاحبي، إنّما العدلُ هو مناط الوحي، وأنا لا قِسطٌ فيَّ ولا اعتدال. أُوغِلُ في نفسِي؟ نعم، وبالقدرِ الذي لا عدلٌ فيه أبدًا.. ثم أسألُكَ أهو لاتساع النفسِ لذاتِها أم لضيقِها عن الأشياء! أتعرف شيئًا؟ الأمران حق، وإنّ الشجنَ في نفسِي بحرٌ لا حدّ له، وإنّي كلما ارتويت منه ازددت عطشًا حتى أنساني عذبَ الماء، فأنّى لك أن ترتوي وأنت ترشف ذا المِلحَ الأجاج؟!

يا صاحبي، إنّما الحبُّ الذي يُضنيني بحثُه قريب.. واللهُ عدلٌ، لكنّي لا أنزعُ عنّي غِشاوتَي لأخرج إلى سِعتِه هاجرًا ذاك الضيق الذي يقتله الهوان؛ لأخرج من هذا الحبِّ الذي لا يعرف الإفراد إلى ذلك الذي يربط صاحبَه بالسماءِ حيث لا بديلٌ فيه ولا شريك، فيتعلّم كيف يكون الأمر!

أنا لا أحتاجُ إلى أحد.. أحيانًا. وبعض الوقتِ أحتاجُ إلى أن يكون ثمّة شخصٍ هناك. أُحبُّ الاعتزالَ ولا أقوى –عفوًا- ولا أجرؤ عليه. وتقتلني نفسي في إلحاحٍ وأنا ألتفتُ إلى الواقعِ الذي يحتاجني، ولكنّي أحتاجُ شيئًا آخرًا لا يمنحه الواقع، فأغضبُ كطفلٍ صغيرٍ وأقعد عنه كأخرقٍ مُغتاظ، وهذه بتلك!

دعنا نتفق أنّ هذه الثرثرة لا تُسمن ولا تُغني ولكنّها ستظل –رغم عدميتها- احتياجًا كنت أحتاجُه أيضًا.

يا صاحبي.. إنّي أُحبُّ اللهَ وأرجو أن يُحبّني، ولكنّي لا أُحسِنُ غير الخجلِ مِنه على ما أكونه كلّ حين. هذا الاضطراب مُربِك، وهذا الذي يعتلجُ في النفسِ أقوى من الناس، لذا لا تنصحني بأن ألجأ إليه لأني لن أفعل غير ذاك.. ليس فقط لكونِه –تعالى- قادرًا على كل شيء، ولكن لكوني أحتاجُ إلى الرحمةِ التي لا يمنحها إلا هو، وإلى الحُبِّ الذي لا حقّ سواه.

اللهُ رحيمٌ يا صديقي ويعلم كلّ الذي لا أقوى الآن على قولِه، فادعُه لي ولا تسألني (بِمَ؟).. فقط ادعُ ودعني أنتظر، فإنّه يعلمُ السِرَّ وأخفى، وعنده أصلُ القرار".

كان مُفعمًا بالأسرارِ مُغرمًا بالسرد، غير أنّه كثيرُ المجازِ شحيحُ الإيضاح! نظر إليّ مليًا بعدما سكن عن اضطرابِه الذي ملأ المكان، ثمّ نظر إلى شيءٍ غير مُحددٍ وقام. سهوت عنه لحظةً ثم التفتُّ فكّأنه لم يكن.. وكأنّه ابتلعه ذلك الذي حدّثني عنه! ذلك الثُقب الذي يجذب صاحبه حتى يُغرقه في سرمديته.