إذا أردت بناء بيتٍ ما فأنت لن تفكّر في الأزهار التي ستزرعها في شُرفتك أو تذهب لشراء المفروشات قبل الانتهاء من التصميمات ثم الأساسات، وهكذا هي الأشياء تتراتب فوق بعضها في سُنّة لا تنعكس: الأهم، فالأهم، فالأهم.
والأمر نفسه ينطبق على الدين، بل -من باب أولى- أول ما ينطبق عليه هو الدين؛ فالإدراك فيه يُبنى متتابعًا، فيتماسك، وكذا الدفاع عنه ورد الشبهات عنه يحتاج إلى نمط من الترتيب المنطقي للتعامل مع الأسئلة، سواء تلك التي تطرأ في ذهنك أو التي تلتقي بها عبر الآخرين.
في كتابه "المغالطات المنطقية"، يخبرنا الكاتب "عادل مصطفى" عن مغالطة شهيرة اسمها مغالطة "رجُل القشّ"، وتعرفها حين تجد الآخر يدّعي دحض حجّتك في حين أنه -في الحقيقة- يضرب رجل القش ويهاجم شيئًا أنت لم تدافع عنه من الأصل!
أنت مثلًا لا تدافع عن عصمة البخاري، ولكنّك تدافع عن منهجيته في ثبوت الأحاديث والآثار، فإذا ما انتقل الحديث فجأةً إلى شخص البخاري ووجدت نفسك تنساق إليه فأنت هنا تمسك فأسك وتضرب بها رُكامًا من القش تحسبه إنسانًا، في حين أن أجدر بك أن تنصرف عن هذا التشتيت.. وهكذا، إذا مددت هذا الخط على استقامته ستجد عشرات الشبهات حول الإسلام تنتقد ما لم ننسبه إلى الإسلام، لكنها تنطلي على الكثير منّا فيغرق في الدفاع عن قضية غير موجودة.
من هنا نتفطّن إلى أهمية استيضاح الدليل على القول المشتبه، فإذا قام الدليل قام السؤال وظهرت منطقية الإجابة عنه، أما إذا كان العكس فبأي وجه يُنسَب هذا الأمر للإسلام حتى ننافح عنه؟ فمن يخبرك أن الإسلام انتشر بحد السيف هو المُطالب بالبرهان على كلامه، أما من أطلق الاتهامات جُزافًا فهو المنوط بالدفاع عن حماقة فعلته.
فإذا أتى البرهان نظرنا في جهة ثبوته ومصدره، فإن كان استشكالا حول نص شرعي في الكتاب أو السُنّة انتقلنا إلى صحة فهم المهاجم -أو السائل- لمقصود هذا الدليل داخل سياقه، فمن يقول "لا تقربوا الصلاة"، ليشتبه بها على فرضية الصلاة، أتى بالدليل لكنه لم يفهم مقصوده ولم يراعِ سياقه… وهكذا.
وخروجًا من دائرة الدليل الشرعي لدائرة الدليل العقلي، فإن من أكبر الأخطاء التي يقع فيها بعضنا هو التسليم بنتائج لا تلزمها المقدمات، كمن يناقش أحد التطوريين في حتمية وجود الخالق في حين أن نظرية التطور -نفسها، وبصرف النظر عن نقدها التفصيلي الذي لا يتسع له المقام- لا تعني أصلًا عدم وجود خالق، بل إنه ثبت عن "داروين" نفسه قوله: "في أقصى درجات تقلّبي، لم أكن في يوم من الأيام ملحدًا بمعنى منكر لوجود الإله"، فضلًا عن وجود مخلوقات أخرى غير حية لا تعني بها نظرية التطور، فمن أوجدها؟
وهو ما يقودنا إلى قاعدة نقاشية أخرى في التعامل مع الشبهات، وهي التأكد من عدم معارضة النتيجة لما هو أرجح منها، لأن المناقش قد يعمد إلى حقيقة ليست بحقيقة أو غير مثبتة علميًا ولا عقليًا وتخضع للسجال والاختلاف، فما الذي يجعل حجته تلك مطلقة وثابتة ويجعل حجتي أنا مهترئة؟
لذا فإن على من تعرض لإحدى الشبهات التفكير فيها منطقيًا بهدوء قبل الانجراف لشكوكها والبحث عن رد لها، لأن الكثير منها بالفعل يهدم نفسه بنفسه؛ إما لاتهامها للدين بالباطل، وإما لعدم ثبوت البرهان المحتج به، وإما عدم فهمه، وإما تقديم مقدمات غير متماسكة لنتائج لا يمكن أن تنبني عليها، وإما لإنكار ضرورات عقلية لا تقوم الحياة ولا العلوم دونها… إلخ. وهذا غيض من فيض.