تلجأ (إسرائيل) راهنًا إلى استحداث ما تعتقد أنه سلاحها الفتاك في فرض سطوتها على أهل البلاد الفلسطينيين، ألا وهو إباحة حيازة السلاح على المستوى الجماهيري اليهودي، ليتضح أن السبّاقين في تقديم طلبات شراء السلاح هم من أنصار "عوتسما يهوديت" المنظمين منذ أكثر من عام على شاكلة ميليشيات تعمل في النقب والساحل، وقد حددت لها غايتها في "استعادة النظام"، بالإضافة إلى المستوطنين في الضفة الغربية وعصاباتهم الإرهابية على غرار منظمة "شبيبة التلال". ويتضح من المعطيات بأن غالبية المتقدمين بطلبات لحيازة السلاح المرخص هم من المستوطنين.
ما يحدث منذ سيطرة إيتمار بن غفير المطلقة على وزارة الأمن القومي وبمساندة بنيامين نتنياهو، وحصريًا بعد عمليتي القدس في السابع والعشرين من كانون الثاني/ يناير المنصرم، هو أشبه بتوزيع السلاح على الإسرائيليين، مقابل بثّ أجواء كما لو كان ذلك في مواجهة خطر وجودي تجتمع فيه سطوة الدولة المرتبكة مع سطوة الشارع المضطرب في منظومة واحدة. هذا المشروع ليس من لدن بن غفير، وإنما دفع نحوه الوزير السابق غلعاد إردان (الليكود)، وازداد الحديث عنه ليتحوّل إلى مخطط دولة في أعقاب هبّة الكرامة.
اللجوء إلى العصابات يرافقه أجواء مؤاتية، إذ إن كل وزير يستبيح بدوره، وبشكل سافر، أي حق فلسطيني يقع في نطاق وزارته التي باتت سيادية بالممارسة والتطبيق. وهذه الأجواء تتيح لكل عضو في العصابة أن يستبيح بشكل سافر أي حق فلسطيني.
كما يخلق اللجوء إلى العصابات منظومة كاملة من منفذي الاستباحة الدموية للفلسطينيين تضيع فيها المسؤولية والمساءلة، لتبدو بأنها صراع دموي غرائزي ومفتوح وأعمال شغب بين طرفين متساويين في الوضعية والمسؤولية، كما ستخلق قواعد لعبة خطيرة لا يعرف ضحايا الانفلات العنصري من يهاجمهم، ولا أية جهة أو منظومة، فيما سوف تتعقّب الشرطة والشاباك كل رد فعل من قبل الضحايا وتقدمهم للمحاكمة الظالمة مهما كان حكمها.
في البحث في تاريخ المشروع الصهيوني في فلسطين نجد أن حضور حرب العصابات هو دائم. وإن كانت "حرب العصابات" (غويريلا - Guerrilla warfare) في الأدبيات الواسعة، هي تعبير عن حرب غير تقليدية لمجموعة تنطلق من عقيدة موحدة، ومن هدف محدد ضد جيش نظامي تقليدي، وفي ظروف يتم اختيارها بصورة غير ملائمة للجيش النظامي. وهي نمط الحرب الصغيرة ذاته، لكن المتواصلة والتي تخوضها حركات ثورية ضد المنظومات القاهرة التي تفوقها عددًا وعتادًا أضعاف المرات. وعادة ما كانت تتبنى أنماط عمل تستنزف منظومة القهر وتجعلها مكلفة سعيًا لإسقاطها.
اعتُبِرت ثورة التحرر الوطني الفلسطيني، بعد هزيمة الجيوش العربية النظامية في عام 1967، ضمن حرب العصابات الثورية والتي حققت إنجازات كبرى في وضع قضية فلسطين على واجهة العالم، وأعادت تشكيل الشعب الفلسطيني وبلورة حقوقه في العودة والتحرير وتقرير المصير. كما استثمرت المؤسستان الإسرائيليتان، الأمنية والبحثية، جهودًا كبيرة في محاولة فهم "حرب العصابات" الفلسطينية التحررية، التي باتت حركة تحرر وطني.
انتحل المشروع الصهيوني في فلسطين "حرب العصابات" وجيّره لصالح أدواته الاستعمارية، سعيًا لمحاربة ضحاياه بأساليبهم من خلال تقمّص نمط حياتهم على شاكلة فرق المستعربين عميقة الحضور في التاريخ الصهيوني، وذلك بهدف السيطرة واحتلال الأرض والطرد السكاني، وتعامل كما لو أنه حركة تحرر وطني، وبأن أهل البلاد الفلسطينيين هم غزاتها، واعتبر حرب العصابات الفلسطينية "شللاً إرهابية".
في العام 1948، كانت وظيفة مركزية للعصابات الصهيونية إلى جانب قوات "الهاغاناه" التي كانت بمثابة جيش نظامي، وتمثل دورها بالقيام بما لا يستطيع جيش نظامي القيام به على حساب "مهامه القتالية" واحتلال البلدات والتهجير، مثل السطو والنهب والسيطرة على الكم الهائل من البيوت، والمحال التجارية، والمرافق العامة، والمساجد والكنائس، وكل ما تحتويه من ممتلكات. وكانت الغاية من ذلك مزدوجة، وهي إثراء المجتمع اليهودي ماديًا بما في ذلك الجنود، فيما الهدف الأساسي هو منع عودة الفلسطينيين الذين طردتهم قوات "الهاغاناه" من العودة إلى بلداتهم أو بيوتهم؛ وفي حال عادوا، فلن يجدوا أي مكان يأويهم بعد أن بات يخضع لناهبيه، إن لم يكن قد تم تدميره.
لم تخضع هذه العصابات، التي أتاحت لها الدولة الناشئة القيام بوظيفتها، لأية مساءلة قانونية، وبات من أدوارها القيام بالهجمات المسلحة على الفلسطينيين بمن فيهم جيرانهم حتى التهجير والطرد، وإلقاء البراميل المتفجرة على الأسواق في المدن الساحلية، وكل جرائم التطهير العرقي المتكاملة مع ما يقوم به الجيش النظامي وبقرار سياسي.
لقد تكرر اعتماد هذا النمط من صناعة السطوة في الجامعات الإسرائيلية التي شهدت في السبعينيات والثمانينيات اعتداءات دموية ضد الطلاب العرب، بتكامل أدوار مطبق مع قوات الشرطة والشاباك؛ فحين كان الطلاب العرب منظمين وبجهوزية عالية، كانت قوات مدججة من الشرطة والأمن تحضر إلى الجامعات وإلى جانبها عصابات إرهابية. وحين كان اليمين الفاشي بجهوزية عالية، كانت تحصل اعتداءات دموية بالسلاسل الحديدية والسلاح الأبيض، وحتى التهديد بالسلاح على الطلاب العرب، فيما الشرطة تتموضع في موقع المتفرج من بعيد. كان المعتدون يحضرون إلى الحرم الجامعي وهم ليسوا من طلابه، لذلك لا يخضعون لمحاكم الطاعة ولا أحد يسائلهم؛ وعند الصدامات كان يجتمع الشرطة والعصابات اليمينية ومسؤولو الشاباك وحرس الجامعات في كيان واحد.
هذا النمط شهدته أيضا المدن الساحلية في هبّة الكرامة في أيار/ مايو 2021، حيث التناسق المتكامل بين دور الشرطة في قمع التجمعات العربية، وبين عصابات مسلحة إرهابية تهاجم وترتكب الاعتداءات الدموية التي لا تستطيع الشرطة قانونيًا القيام بها، مثل جرائم "اللينش" ومهاجمة الأحياء واقتحامات البيوت وسكانها العزّل. وبخلاف العرب الفلسطينيين الذين دافعوا عن بيوتهم وأحيائهم ووجودهم، والذين جرى اعتقال أكثر من ثلاثة آلاف منهم وتقديم مئات لوائح الاتهام بحقهم وفرض أحكام ترهيبية عليهم، فإن العصابات الإرهابية الإسرائيلية تمتعت بغض الطرف عنها.
في أعقاب هبّة الكرامة، جرى استحداث فكرة إنشاء ميليشيات إرهابية شبه رسمية وثابتة، وقد تخصص حزب "عوتسما يهوديت" بإقامة مثل هذه الميليشيات، بدءًا من النقب وبئر السبع لتنتقل إلى مدن الساحل، وبالتعاون بين المنظمين من هذا الحزب الفاشي والبلديات والشرطة، في حين أن هدفها المعلن هو محاربة "الجريمة القومية"، أي الدور السياسي للعرب، واستعادة "الحكم والسيادة". وحسب مخطط الحكومة الحالية وخطوطها العريضة، فإنه يجري الإعداد لإقامة "الحرس القومي" من آلاف المتطوعين من خريجي الوحدات القتالية في جيش الاحتلال، ليساند الشرطة في استهداف وقمع الجماهير العربية الفلسطينية، ولمنع تكرار هبة الكرامة، بالإضافة إلى حماية قوات الهدم والتهويد في النقب.
قرار بن غفير المدعوم من نتنياهو بنشر السلاح بين الجمهور اليهودي هو خطير على الفلسطينيين، وفيه استباحة لوجودهم ولأرواحهم، بروح استباحة الحكومة الحالية لأي حق فلسطيني مهما كان. وسيكون العديد من الضحايا لهذا القرار، وهو قرار لا يتوقف عند حمل السلاح المرخص إسرائيليًا ضد الفلسطينيين، بل يتم خلق أجواء مؤاتية لجرائم العنصرية والتطهير العرقي، سيكون مستبعدًا التراجع عنها في حال تغيير الائتلاف الحاكم مستقبلا.
في المقابل، من شأن هذا التسليح مع مرور الوقت أن يرتد على المجتمع الإسرائيلي برمته، وهذا ما تحذر منه المؤسسة الأمنية والشرطة والشاباك، بأنّ حمل السلاح بلا خلفية ومهارة مناسبة، وفي إطار منظومة أمنية في حالات الصدامات أو العمليات، فمن المحتمل أن يقع قتلى إسرائيليين من هذا السلاح، كما من شأنه أن يخدم عالم الجريمة، وكذلك سوق السلاح وتهريبه، وأن يزيد العنف المجتمعي بين اليهود أنفسهم، وبالذات ضد الفئات المستضعفة وضد النساء.
ختامًا، إنّ سياسة توزيع السلاح على اليهود الإسرائيليين تعني فعليًا تحويل العمل الشرطوي إلى عصابات وميليشيات، وكذلك إلى استباحة أمان الفلسطينيين العرب، وحتى حياة الناس، وإلى الإفلات من أية مساءلة، ما يشجّع على تكرار جرائم العنصرية والفصل والتطهير العرقي.
مهما كان، فإن من يتحمل المسؤولية العليا عن أي فلسطيني يتعرض لإرهاب العصابات المسلحة، هو حكومة (إسرائيل)، والتي يتصدرها بن غفير..