حين تكون الإرادة يتراجع المستحيل، هذا ما كان قبل فجر السادس من أيلول/سبتمبر 2021، وهذا ما قاله لنا جميعًا محمود، وأيهم، ويعقوب، وزكريا، ومحمد، ومناضل، قالوه دون أي كلمة وأنصتَت لهم قلوب الناس حين كان صخب معجزة الحرية يتلاطم فيها.
أنصتت لهم القلوب وفقط لهم وسارت وراءهم وتعقبت خطواتهم ليس فضولًا وإنما حرصًا عليهم متمنية أن تنفتح لتكون ملاجئ لهم من دولة كاملة وجيش كامل وجهاز شرطة كامل وشاباك كامل يركضون في كل اتجاه وراء خيبتهم، وبروح الانتقام من انتصار الأسير على السجان، وضحايا الاحتلال على قاهريهم.
اقرأ المزيد: عامان على عملية نفق الحرية.. يوم انتزع الأسرى حريتهم بأظفارهم
استعادت الناس معنى البيئة الحاضنة، وكيف يتسع نحو كل فلسطين وفي كل مكان، وكيف بات أبناء يعبد وجنين وعرّابتها أبناءً للناصِرة والبلدات المجاورة، دون خط يفصل الفلسطيني عن الفلسطيني كما الجدار والحاجز والشارع الالتفافي وكما القانون المستعمر، ارتاحت الأنفس ولامست المعنويات معنى معانقة السماء سعيًا وراء إرادة أصحاب النفق، تلك السماء التي ليس مثل النفق الأرضي سبيلًا لها.
سيكون من الجدير اعتبار السادس من أيلول يومًا وطنيًا للشعب الفلسطيني فيما لو حصل ذلك، والسادس والستة يتماشيًان معًا من على أرض اللغة وبين حروفها كما على أرض الوطن وبين شعابه.
تراودني فضولية الخيال كيف أمضوا يومهم قبل الخروج وكيف أضاء عمقُ الأرض لهم الطريق؟ وتشغلني المشاعر، كيف شعر كل واحد منهم، وهو يشق طريقه نحو الأرض؟ كيف شعر بعدها وأي مشاعر حين أعادوه إلى القبو والحرية تملأ روحه؟
في جلسة المحكمة المركزية في الناصرة بالعاشر من كانون الثاني من هذا العام، تلاشى المشهد القضائي، وكلام القاضيات الثلاث وحتى كلام محامي الدفاع، كان مقنعًا لكنه كان على هامش المشهد، تُرِك المشهد للوجوه لتتحدث، ولغة العيون قالت أكثر الكلام، حاصرت قوات الشرطة وحرس المحكمة المكان وحاصروا العيون واستفزتهم كل ابتسامة متبادلة فالابتسامة من علامات انتصار إرادة الحرية.
حين ناداني محمود ورفاقه مبتسمين وأنا ناديتهم، كان شعورًا طافحًا بأن النداء هو الرسالة وبأن جانبي السجن داخله وخارجه هما ملتقى الفلسطينيين الحر مهما علت الجدران، وهو ما تدركه دولة السجون بحيث جنّ جنون الحراس وقطعوا الكلام بأجسادهم وبالتهديد، حاولوا أن يشكلوا بأجسادهم وبزيّهم القمعي المدجج بأدوات القمع، جدارًا فاصلًا بين أصحاب النفق وبين الجمهور ممن نجحوا بدخول القاعة، تحت وابل من كلام التهديد بإخراجهم بعد أي إيماءة فخر واعتزاز تجاه الأسرى وعيونهم، هددوا الطفلة والطفل اللَّذين قالا لخالهما الأسير محمود العارضة "بنفتخر فيك وبنحبك".
لم ينشغل أسرى النفق بما ستقرره المحكمة، فأي قرار ليس ذا شأن لدى المحكومين بالسجن المؤبد مدى الحياة، ثم إن شعور الانتصار عندهم وانعكاسه عندنا جميعا تفوّق على ترسانة القهر، لتشكّل جلسات المحكمة بالنسبة لهم فسحة خروج من العزل الانتقامي في السجن وللنظر من ثقوب نوافد البوسطة اللعينة الموصدة التي تقلهم، إلى الأرض الرحبة التي ساروا فيها وتجولوا فيها في مرج ابن عامر بلوغًا إلى جنين من ناحية وإلى الناصرة من ناحية، إنهم يرون في ذلك إعادة اعتبار لإرادتهم، كما يرون في لجنة التحقيق في إخفاق مصلحة السجون وجهاز الشاباك اعتبارًا لهم وكيَّ وعيٍ للمحتل في حروبه ضد إرادة الصمود والحرية التي لا يمكن أن ينتصر فيها مهما كان منسوب القهر وعتاده القمعي والقضائي، إنهم أسرى نفق الحرية.
عن الإضراب:
في 14 من أيلول الجاري سوف يبدأ الإضراب الجماعي للحركة الأسيرة، إلا إذا تغيرت المعطيات وتراجعت (إسرائيل) عن القرار الإرهابي الصادر عن وزير "الأمن القومي"، بالتضييق عليهم وحصريًا في منع الزيارات الشهرية وتحويلها إلى مرة في الشهرين.
وعن أهمية الزيارات العائلية، فهي تشكل المتنفس الحر الوحيد تقريبًا والأكثر أثرًا والأكثر حساسية لدى الأسرى لدرجة تصل حد القدسية، إنها الرابط الأول بين الأسير والحياة خارج السجن، وتدرك مصلحة السجون ومعها الشاباك بأن أي مس بعائلات الأسرى أو انتهاك لكرامتهم الإنسانية أو حرمانهم من رؤيتهم، سيواجه برد فعل حاد من الأسرى ويؤدي إلى التوتر والصدام داخل السجون، وهو مسألة لا مساومة فيها بأي شكل كان.
لقد كانت الزيارات مرة كل أسبوعين ولمدة خمسة وأربعين دقيقة، وذلك وفقًا للإجراءات المعمول بها، ثم ونظرًا لمحدودية تمويل منظمة الصليب الأحمر للحافلات التي تقل العائلات، تم اعتماد مرة في الشهر ولذات عدد الدقائق، والآن وبجرة قلم دموي يريد المتطرف إخضاع نفسية الأسرى ونفسية العائلات وشغفها في كسر ظمأ القهر، إنه كما سموتريتش يريد إشعال الوضع وبحاجة سياسية إلى الصدام لأن الصدام المفتوح هو البيئة الأفضل لتنفيذ مآربهما التصفوية في فلسطين.
كان لافتًا موقف مكتب نتنياهو الذي رفض كلاميًا قرار وزيره وليس واضحًا إن كان قد منع تنفيذه، فهو يدرك أن افتعال الصدام مع الحركة الأسيرة معناه حالة حرب واسعة تتجاوز السجون، كما ويبدو أن قرار بن غفير يتنافى مع أولويات المؤسسة الأمنية ويعوّق مخططاتها نحو تصعيد إقليمي وبالذات مساعٍ لاستهداف الجبهتين الشمالية والجنوبية انتقامًا للمستوطنين من العمليات التي حصلت في أنحاء الضفة الغربية، وبالأساس استعادة للردع الذي يتآكل بعد كل عملية، وبعد كل عمل عدواني احتلالي. مهما كان وفي حال حل وزير آخر من حزب آخر مستقبلَا مكان بن غفير، فهذا لا يعني الإلغاء الفوري لقراراته، بل إن التعامل الإسرائيلي الاحتلالي مع الأسرى هو اعتبار كل حق أساسي يخضع لاعتبارات السجان المطلقة، وأن أي إنجاز حققته الحركة الأسيرة في نضالاتها ينبغي العمل لشطبه، وكل فسحة أمل فتحها الأسرى ينبغي إغلاقها. وبالرغم من ذلك لا يزال الأسرى يراكمون الإنجازات.
عادة ما تحسم الأمور بشأن مطالب الأسرى في اللحظة الأخيرة قبيل بدء الإضراب وأحيانًا مباشرةً بعد الشروع به، وهكذا سيكون في هذه الجولة، والتهديد الحقيقي بالإضراب وتداعياته على دولة الاحتلال فيما لو انطلق هما ما سيحسم الأمر، ويبقى المطلب هو الحرية لأسرى وأسيرات الحرية.