فلسطين أون لاين

مسارات حركة "فتح" بعد 58 عامًا على النشأة (1/ 2)

ظهر في حركة "فتح" منذ بدايات التأسيس تياران: الأول كان يرى ضرورة عدم الاستعجال في بدء العمل العسكري، أما الثاني فكان يدفع باتجاه إطلاق الكفاح المسلح فورًا، وأبرزهم ياسر عرفات وخليل الوزير. وبمرور الحركة لمحطات مختلفة من تاريخها، كانت السمة الأبرز لها صراع مراكز القوى والتيارات داخلها.

ورغم ارتفاع أسهم التيار الداعي للتخلي عن الكفاح المسلح منذ توقيع اتفاقية "أوسلو" عام 1993، مرورًا باغتيال زعيم الحركة التاريخي عرفات، وانتهاءً بتولي السيد محمود عباس الرئاسات الثلاث، (فتح، منظمة التحرير، السلطة)، وهو أبرز قادة تيار الحركة "العقلانيين"، إلا أن فكرة الثورة ونهج الكفاح المسلح على مستويي التنظير والتطبيق، لم تغيبا عن سلوك مختلف القيادات والعناصر الثورية داخل الحركة، ويرجع ذلك بالأساس إلى الفشل المدوي الذي آلت إليه مسارات التسوية والمفاوضات وخيار حل الدولتين، والتي قادها تيار مركزي داخل الحركة، ما ألحق ضرراً عميقاً بالقضية الوطنية.

أُذيع البيان الأول لقوات "العاصفة" الفتحاوية في 1/1/1965، وجاء فيه: "اتكالاً منا على الله، وإيماناً منا بحق شعبنا في الكفاح...، وإيماناً منا بواجب الجهاد المقدس؛ لذلك فقد تحركت أجنحة من القوات الضاربة في ليلة الجمعة 31/12/1964 وقامت بتنفيذ العمليات المطلوبة منها كاملة ضمن الأرض المحتلة، وعادت جميعها إلى معسكراتها سالمة...". 

غير أن الشهور التي أعقبت إعلان انطلاقة العمل الفدائي الفتحاوي لم تشهد الكثير من العمليات العسكرية، وتركزت جهود الحركة على ترسيخ حضورها في الأوساط الفلسطينية، واقتصر العمل العسكري حتى عام 1967 على التسلل عبر الحدود وزرع العبوات البدائية والألغام.

ولكن بعد نتائج هزيمة الخامس من حزيران/يونيو1967، بدأت الحركة المشاركة في تنفيذ هجمات عسكرية مختلفة، ومن أشهرها معركة "الكرامة" في 14 نيسان/أبريل 1968، والتي أدت إلى تزايد شعبية الحركة في الأوساط الفلسطينية والعربية، وانضم العديد من المتطوعين الشباب إلى صفوف الفدائيين، وتلقت الحركة دعماً من مختلف الدول العربية، منها مصر والجزائر وسوريا واليمن وليبيا والأردن.

في عام 1969 انتخب المجلس الوطني الفلسطيني ياسر عرفات رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي عام 1970 اندلع القتال بين الجيش الأردني ومقاتلي فتح، الأمر الذي أدى إلى التوجه إلى لبنان وسوريا عام 1971. ونفذت الحركة، إلى جانب فصائل فلسطينية مختلفة، عمليات فدائية انطلاقاً من لبنان، وشنت قوات العدو حرباً على لبنان في صيف عام 1982 مستهدفة قوات الثورة الفلسطينية، وبعد نحو 3 أشهر من المعارك مع العدو، خرج المقاتلون من لبنان إلى تونس، وعلى إثر ذلك وقعت مجزرة "صبرا وشاتيلا".

في عام 1987 اندلعت انتفاضة الحجارة داخل فلسطين المحتلة، وبرزت خلالها حركة "حماس"، وشكّلت الحركتان، إلى جانب القوى الفلسطينية المختلفة، عماد الانتفاضة ووقودها.

بعد انتهاء انتفاضة الحجارة، دشنت مرحلة جديدة في تاريخ الشعب الفلسطيني، بدأت بعد توقيع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات اتفاقية "أوسلو" عام 1993، وحتى قبل هذا التاريخ، كان تيار الثورة الفتحاوي صاحب اليد العليا، إلا أن تيار التسوية اشتد عوده بعد مرحلة "أوسلو" وحتى تاريخه، ولا سيما على مستوى القيادة العليا، صاحبة النفوذ والقرار، على نحو أدى إلى إضعاف الفريق المتمسك بخيار الكفاح المسلح والمعارض لاتفاقية "أوسلو".

ومع تعثر مسار التسوية وفشل إنشاء دولة فلسطينية في الرابع من حزيران/يونيو عام 1967، تراجع عدد من الأوساط الفتحاوية عن تأييده للمسار، وأعرب عن إحباطه من السلوكين الإسرائيلي والأميركي تجاه مفاوضات التسوية، وغياب عوامل الضغط على حكومات العدو المتعاقبة، في ضوء استمرار فرض العدو سياسة الأمر الواقع عبر تكثيف عمليات الاستيطان والتهويد والعدوان.

الأمر الذي أدى إلى تراجع قطاعات فتحاوية مختلفة عن دعم خيارات التسوية والمفاوضات وسياسة خطوة خطوة، بعد أن أدركوا خطورة هذا المسار وانعكاساته الكارثية على حقوق وثوابت الشعب الفلسطيني، وأيقنوا أن العدو لا يؤمن بحل الدولتين ولا خيار "الأرض مقابل السلام".

هذه التطورات دفعت قيادات وعناصر من "فتح" إلى المساهمة والمشاركة الفاعلة في إشعال انتفاضة الأقصى عام 2000، في أعقاب فشل مفاوضات "كامب ديفيد" واقتحام المجرم أرئيل شارون باحات الحرم القدسي. وكان للجناح المسلح للحركة، كتائب "شهداء الأقصى"، والجناح المسلح لحركة "حماس"، كتائب "القسام" والأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية المختلفة الدور البارز في مواجهة العدو واستنزافه. 

كما أظهرت الفصائل مستوى مرتفعاً من التنسيق والتعاون، انعكس على تنفيذ عمليات فدائية مشتركة، الأمر الذي أدى إلى تنفيذ العدو عملية عسكرية عدوانية أسماها "السور الواقي" اجتاح خلالها الضفة الغربية المحتلة، وحاصر الرئيس الراحل عرفات في مقر المقاطعة في رام الله، وبعد نحو عامين أعلن عن وفاته في 11-11-2004، فيما يعتقد أنه عملية اغتيال قام بها العدو عبر تسميمه، ليتولى بعدها الرئيس محمود عباس السلطة ورئاسة حركة فتح عام 2005. 

وتبدأ بعدها مرحلة تمكين تيار فتح الأقل إيماناً بنهج المقاومة المسلحة والأكثر تمسكاً بمسار التسوية السلمية كخيار وحيد للتعامل مع العدو الإسرائيلي، وإثر ذلك تم تفكيك كتائب "شهداء الأقصى"، وبدأ العمل على تجفيف بيئة المقاومة المسلحة في الضفة الغربية المحتلة.

رغم التطورات التي أعقبت رحيل الشهيد ياسر عرفات وتولي محمود عباس سدة الحكم وقيادة "فتح"، إلا أن تيار الثورة والكفاح المسلح داخل حركة فتح لم يستسلم ولم يرفع الراية البيضاء، وذلك في ضوء عوامل مختلفة، ترجح استعادة هذا التيار دوره وتأثيره داخل الحركة، وتحديداً في الضفة الغربية المحتلة، وهو ما سنبحث مؤشراته ومساراته في المقال المقبل بإذن الله.