بعد نحو 10 أشهر من أطول حرب في تاريخها، ونحو عشرة آلاف جندي قتيل وجريح على الأقل، بحسب الاعترافات الإسرائيلية الرسمية، وخسائر اقتصادية هائلة، وتهجير مئات آلاف المستوطنين، وفضيحة عالمية، وأزمة قانونية، وانقسامات داخلية عميقة غير مسبوقة، فإن "إسرائيل" يصدق عليها المثل العربي: كالذي يهرب "من الدلف إلى المزراب"، وتتورط أكثر فأكثر في الحرب، وتفشل في حسم الحرب على أي جبهة، وليس لديها استراتيجية خروج أو خطة واضحة، وأصبح الموقف ملتبساً والمآلات مجهولة، والسبب الرئيسي بحسب تقديرات أغلب الأوساط الإسرائيلية هو بيبي نتنياهو وحساباته الشخصية والعائلية على حساب مصالح "إسرائيل".
"إسرائيل" تتورط أكثر فأكثر، والحرب تزداد تصعيداً وتتمدد إلى معركة مفتوحة على عدة جبهات أُخرى، مع مستوى مرتفع وغير مسبوق من الصواريخ الموجّهة نحوها بالتوازي مع إلغاء الطيران إليها وهروب الأجانب، الأمر الذي يشي بأنَّ الصراع سيتسع نحو تصعيد إقليمي غير محسوب وغير مرغوب فيه على المستوى المهني الإسرائيلي، باستثناء الاستجابة لمغامرات نتنياهو وشطحاته التي أغضبت أقرب حلفائه، بيد أن المجتمع الدولي ورأسه الأميركي يبدو مستعداً لتحمل مساعي نتنياهو لتوريط المنطقة في حرب واسعة، خشية على بقاء "إسرائيل" ومنعاً لإيقاع هزيمة استراتيجية بها، ما سينعكس على مصالح الغرب في المنطقة ويعزز المحور المعادي لأميركا، وعلى رأسه الصين وروسيا وإيران.
منذ السابع من أكتوبر، افتقدت "إسرائيل" الرؤية والاستراتيجية، وكل ما سعت إليه هو إشباع غريزة الانتقام النابعة من الخوف على المصير والوجود الذي بات معرضاً للتهديد بعدما تعرض الردع الإسرائيلي لضربة قاتلة تحاول "إسرائيل" جاهدة منذ 10 أشهر استعادة جزء يسير منه، فاغتالت قيادات فلسطينية ولبنانية وإيرانية وازنة، بيد أن اغتيال إسماعيل هنية في طهران وفؤاد شكر في بيروت قلبا قواعد الاشتباك وشكلا نقطة تحول في الحرب بين "إسرائيل" والمقاومة في مختلف الجبهات. وعلى الرغم من حالة النشوة التي شعرت بها "إسرائيل" لحظياً، فإنَّها باتت تخشى أن تتحول إلى حسرة وورطة يصعب التخلص منها.
تعيش "إسرائيل" حالة من التخبط غير المسبوق على مستوى اتخاذ القرار وتقدير الموقف بسبب الفجوة العميقة بين المؤسسة الأمنية ونتنياهو، فالأخير يتصرف بطريقة انفعالية، ويتجاهل الإسقاطات والتدهور الذي قد يخرج عن السيطرة، ويرفض توصية أجهزة الأمن الإسرائيلي بضرورة وقف النار الآن في غزة، بوصفه أفضل قرار من أجل تفكيك التصعيد. وعلى الرغم من ذلك، فإن نتنياهو لا يستجيب، ويتخذ قراراته وفقاً لمعايير وأوهام سياسية بناها لنفسه.
تدرك الإدارة الأميركية مرامي نتنياهو وحساباته، ولم تصل قواتها إلى المنطقة بطلب منه، بل لأنهم لا يثقون به مطلقاً، ولا يثقون بحساباته. صحيح أن الهدف الآني هو الدفاع والتصدي للهجوم المتوقع على "إسرائيل"، بيد أن الهدف الرئيسي هو الخشية من فقدان السيطرة، ولرؤية ما يمكن القيام به والعمل على منع تدهور الأوضاع.
"إسرائيل" في حالة من انعدام اليقين منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. وعلى الرغم من شعور القبيلة الذي دفعها إلى شن حرب إبادة انتقامية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فإنَّ طول أمد الحرب وانعكاساتها وسلوك نتنياهو أعاد حالة الانقسام والتفكك العميق داخل المجتمع الإسرائيلي إلى أخطر ما كان عليه في السادس من أكتوبر/تشرين الأول، الأمر الذي بدأ يستغله نتنياهو بعدما ساهم في إذكائه بهدف صناعة مجد شخصي له، ولو على حساب حياة الأسرى الإسرائيليين، وكل العوامل داخل حكومته اليمينية الفاشية تساعده في تحقيق أهدافه، ومنها التخلص من العار الذي مُني به في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فلم يعد نتنياهو الرجل المعروف بأنه شحصية مترددة ولا تميل إلى المغامرات، وتحوّل إلى شخص مغامر، بل ومقامر أيضاً.
لقد بنى "مسار تطويل" للحرب، لأن هذا يخدمه، وسيقوم بكل ما هو ممكن لإقالة جميع رؤساء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وتحميلهم المسؤولية، وهو يراهن، بل ويقامر بعلاقة "إسرائيل" الاستراتيجية مع الولايات المتحدة بشقيها الديمقراطي والجمهوري، ووضع البيض كله في سلة ترامب بناء على ثقة عمياء بأنه سيقدم له دعماً غير محدود، بيد أن صعود نجم كامالا هاريس قد يقلب رهاناته.
ولتحقيق خطته بشأن إطالة أمد الحرب، يعارض نتنياهو كل ما يمكن أن يجعلها أقصر على صعيد صفقة الأسرى ووقف إطلاق النار وما بعد الحرب، فهو يقوم بكل ما هو ممكن لإطالة أمد الحرب تحت عنوان "النصر المطلق" الذي يدرك أنه لن يتحقق.
لأول مرة في تاريخ "إسرائيل"، تتشكل أزمة ثقة مطلقة بين رئيس الوزراء وأجهزة الأمن، فنتنياهو متهم بأنه يعمل بعكس المصلحة الأمنية ويريد التورط وإطالة أمد الحرب.
حالة النشوة ما بعد اغتيال شُكر وهنية خلقت شعوراً بالقوة غير المحدودة لـ"إسرائيل"، الأمر الذي تحوَّل بعد تهديدات محور المقاومة إلى حالة من الخوف والاستنزاف مع انتظار الضربة من مختلف الجبهات والخوف من الحرب الشاملة غير محسوبة النتائج والتداعيات.
"إسرائيل" التي توصف بأنها "أكبر قوة في الشرق الأوسط" في حالة خوف وانتظار واستنزاف، فالساعات القادمة ربما تجعل نتنياهو يدرك أن القوة، مهما عظمت، لها حدود، وإلا فإن نشوة القوة والنجاح التكتيكي في اغتيال قائد هنا أو مسؤول هناك ربما تتحول إلى خسارة استراتيجية وحسرة دائمة.