في سجن "جوزيف شتاد" المظلم بالعاصمة النمساوية فيينا، حيث لا تُرى الشمس؛ إنه سجنٌ في بلدٍ يدعي الديمقراطية، لكنه يُغيب من في سجونه كأنه غريقٌ في أعماق الظلم لا أحد يزوره أو يسمع أخباره طوال عام كامل باستثناء ذلك الحكم المؤبد الذي صدر بحقه.
رسالة الأسير المحرر المعتقل في سجون النمسا عبد الكريم أبو حبل تخطت تلك القضبان، ووصلت لــ"فلسطين" بشكلٍ ما ليروي ما حدث معه طوال عام من الغياب في سجون النمسا، وطرق التعذيب، ودور قنصلية السلطة في قضيته، ومطالبه ورسالته التي يحملها.
واعتقل الاحتلال الإسرائيلي أبو حبل في 12 يوليو/ تموز 2004، وأمضى 9 سنوات حتى أفرج عام 2013، وقُصف منزله حيث يسكن في غزة في يوليو/ تموز 2014، واعتقلته السلطات النمساوية بشهر يوليو 2016م بعد أن رفضت طلب اللجوء السياسي الذي قدمه إليها.
ودون مقدمات، بدأ رسالته الخاصة التي وجهها لجميع أبناء شعبه في الداخل والخارج ولكافة أحرار العالم، قائلًا: "الآن أنا أعيش مستضعفًا، لذا أطالب الأحرار وأبناء الشعب الفلسطيني بالتحرك بكل ما يستطيعون إليه سبيلًا، وأن يبذلوا قصارى جهدهم لإطلاق سراحي، حتى لا أكون فريسةً بين الذئاب".
قبل فوات الأوان
وبعد مضيه عامًا من الأسر يؤكد في تلك الرسالة: "ما زالت الفرصة قائمة للطعن في الحكم واستئناف القضية قبل فوات الأوان مرة أخرى، فلقد قدمت طعنًا بحكم السجن المؤبد لو وفرتم محامي دفاع عني بهذه القضية، علما أن الاستئناف والطعن يستمران ما بين الشهرين والثلاثة أشهر حتى العام (...) بعد عدم تجاوب سفارة السلطة بالنمسا بتوكيل محامي دفاع عني".
"رأيت الموت طوال تسعة أشهر في غياهب التحقيق، لم أرَ الشمس أو ضوء النهار، ضُربت وعُذبت، حتى الطبيب الذي جاء لعلاجي من شدة التعذيب أمر بضربي، بل وشارك بالضرب، وفي النهاية ادّعوا بأني قمت بالاعتداء على الطبيب".
ويتساءل بمرارة: "أين الديمقراطية في بلد يدعي أنه يرعى الديمقراطية؛ حُكم علي بالمؤبد من أجل قضية عادلة معترف بها عالميًا، لكننا أصبحنا اليوم في نظرهم "إرهابيين" أمام أصحاب الإنسانية كما يدعون".
تحقيقات وتعذيب
في بداية التحقيقات، أنكر المحققون أنهم من جهاز استخبارات الاحتلال "الموساد"، إلا أن أبو حبل –كما يقول في رسالته– لاحظ وجود النجمة الإسرائيلية؛ إلى أن اعترف أحد الضباط ويدعي "فارس" بأنهم "إسرائيليون".
طوال فترة التحقيقات؛ استفسر المحققون من أبو حبل، عن الأسير الشهيد مازن فقها الذي التقى فيه أثناء اعتقاله الأول في سجون الاحتلال.
وفي شهر كانون أول 2016م، جاء المحقق "فارس" وركز في أسئلته التي لم تجد إجابة عند أبو حبل عن الشهيد فقها وقال له: "لن يطول رفيقك على قيد الحياة".
"لماذا كل هذه الأسئلة عن فقها ماذا فعل لكم؟"، بسؤال مماثل رد أبو حبل على ذلك الضابط، ويكشف أبو حبل في رسالته التي رأت النور: "لقد أخبرت ممثل قنصلية السلطة عن أسماء الأسرى المحررين الذين يستفسر عنهم ضباط "الموساد" وأخبرته أن يبلغ عائلتي بأنهم يريدون استهداف فقها منذ تلك الفترة ولكن السفارة لم تُبلغ أحدًا، حتى أنها التقطت صورة لي في بداية الاعتقال ولم ترسلها لعائلتي".
وبعد اغتيال فقها جاء ذات الضابط لــ"يزفّ" له الخبر: "فقها تم إنهاؤه".
وفي رسالته تحدث عن أصعب موقف مر به خلال التحقيقات، فذكر أنه في إحدى المرات حُقن بإبرة مجهولة، أدت إلى تغير في لون جلده خاصة اليدين وما لبثتا أن ازرقّتا، ويواصل: "لقد نقلت إلى المستشفى عدة مرات بسبب التعامل القاسي خلال التحقيقات، وبعدما حُقنت بتلك الإبرة التي غيبتني عن الوعي لنحو 15 يومًا، التي كانت بهدف انتزاع اعترافات مني، جاءت قنصلية فلسطين بالنمسا وشاهد فريقها تغير لون جلدي وأخبروني أنهم سيخرجوني من مكان الاعتقال إلى السفارة ولكنهم لم يفعلوا ذلك ولم يخبروا أهلي بما حدث معي".
ويصف المحاكمة التي تعرض لها بــ"الظالمة" في دولة ترى نفسها ديمقراطية، متسائلًا مرة أخرى برده على ادعاء الاعتداء على الطبيب: "كيف لجسد كان يبلغ 55 كغم أثناء التحقيق، أن يعتدي على مجموعة من المحققين يصل وزن الواحد فيهم 100 كغم؟".
الأمم المتحدة والقنصلية
وكشف أبو حبل في رسالته، أن قنصلية السلطة بالنمسا زارته أربع مرات، استمرت كل زيارة لمدة عشر دقائق، أخبروه في البداية أنهم سيحاولون أخذه لمقرهم وألا يبقى في المحكمة، وذلك من خلال الإنتربول"، ويضيف: "بعدما صدر حكم السجن بالمؤبد لم يزرني أي أحد من السفارة"، متهمًا سفارة السلطة بالضلوع في عملية التحري عنه، كما وجه الاتهام إلى الأمم المتحدة بأنها أبلغت السلطات النمساوية عن موعد مغادرته البلاد وذلك في 17 يوليو/ تموز 2016م.
ويدلل أبو حبل على اتهامه للسلطة والأمم المتحدة كما جاء برسالته، قائلا: "حينما رفضت النمسا طلب اللجوء السياسي، وشعرت بعد ثلاثة أشهر من وجودي بالنمسا بالخطر على حياتي مع أني أردت أن أمكث فيها ولكن لم أجد الأمان، حين رغبت بالعودة سألني موظف الأمم المتحدة عن موعد مغادرتي"، مضيفًا: "حينما جاءت الشرطة النمساوية لاعتقالي، كانت قوات الأمم المتحدة ترافقها".
"خرجت لأغير حياتي طالبًا اللجوء، فدخلت النمسا قانونيًا بجواز سفر، حتى الاحتلال لم يعلم أني موجود بالنمسا، ولكن بعد تحرٍ مكثف علموا أني موجود هنا، فلقد قال لي أحد ضباط النمسا لو أنت موجود بدولة أخرى لتم اغتيالك".
"فش ضرب وإهانات في سجوننا".. هذا ما قاله أحد الضباط النمساويين لأبو حبل في لحظة اعتقاله، حسبما يذكر في رسالته، مستدركا: "لكن في أول لحظات لي بالسجن ضربت وأهنت؛ وإن قضوا علينا بالحياة الدنيا فنحن سنرد عليهم بالآخرة (..) هذا قضاء الله وهذه هي الضريبة".
وعن المحاكمة التي حُكم عليه بها في النمسا بالمؤبد في الجلسة التي عقدت بتاريخ 24 يوليو/ تموز الماضي، يصف أبو حبل جلسة المحاكمة بالظالمة، وأنها استخدمت كلمات حق يراد بها باطل، بالاستعانة بشهود وأدلة وصور وفيديوهات حتى اقتربوا من نبش قبور الموتى لكي يخرجوا أناسًا تشهد زورًا عليه؛ وفق ما أورد في رسالته، نافيًا كل التهم التي تحدثت عن تخطيطه للقيام بعمليات عبر الإنترنت أو بالضفة الغربية.
ويكمل: "كذلك ادعوا أن هناك شهودًا غيابيين في تلك الجلسة المباشرة عبر فيديو كونفرنس بين المحكمة والاحتلال في (تل أبيب)؛ هذا كذب وافتراء لأني لا أعترف بقانون الاحتلال".
"كان الكلام في المحكمة يسلب العقول، حتى محامية الدفاع التي كلفتها النمسا بالدفاع عني وقفت ضدي في القضية، لم تمنحني النمسا الحق القانوني بأن أوكل أي محامي دفاع".
وطلب من سفارة السلطة بالنمسا "بأن يوكلوا لي محامي دفاع ولم يتجاوبوا معه بذريعة أنه لم يقدم طلب لجوء؛ مع أن أي مقدم لجوء أو غير لجوء يحق له بموجب القانون النمساوي توكيل محامي دفاع".
حروفه كانت تنطق صبرًا وثباتًا وأملًا، وهو يتابع: "القضية حينما تحدث تفاعلًا وانتشارًا سيفرج عني، وإن لم يحدث التفاعل سيكون مصيري مجهولًا، لكن الأمل في وجه الله فصبر جميل والله المستعان".
وختم الرسالة: "كما أخرجني ربي من بيتي بالحق سيردني إليه بالحق، وسأخرج بعز عزيز أو بذل ذليل، اليوم أو غدًا؛ والله تعالى يقول: وكان حقًا علينا نصر المؤمنين".