غداة إقامتها على أنقاض الشعب الفلسطيني وخلال السنوات الأولى لدولة (إسرائيل)، وتحت وطأة الحكم العسكري، كانت سياسة الترهيب وحدها كافية لإخراج ما تبقى من الفلسطينيين للتصويت في انتخابات الكنيست لإثبات ولائهم للدولة الوليدة ولحزبها الحاكم (مباي) الذي قاده دافيد بن غوريون.
لذلك لم يستغرب الباحثون أن جميع حملات سياسة الترغيب التي تسعى لإخراج العرب الفلسطينيين إلى التصويت للكنيست، بهدف تعزيز مواطنتهم واندماجهم في الدولة، وترجيح كفة المعسكر الليبرالي فيها، والمدفوعة بمئات الملايين من الدولارات اليهودية الأمريكية، لم تتمكن حتى اليوم من مجاراة نسبة التصويت التي كانت سائدة بين العرب الفلسطينيين في تلك السنوات وبلغت 90%.
وكلما أفلست سياسة الترغيب التي تتمظهر مؤخرا بمظاهر "التغيير" و"التأثير" و"المشاركة" و"الميزانيات" وخاب مسعاها في إخراج الناس إلى الصناديق، يحن البعض، حتى من أولئك الليبراليين ومثقفيهم، إلى سياسة الترهيب، بِعَدِّها الوصفة المجربة التي أثبتت أنها الأكثر "نجاعة" في التعامل مع "العرب الفلسطينيين" داخل حدود 1948.
ولأن عجلة الصهيونية قد دارت وأصبح من يحتكم على مفاتيح حافلات التهجير هو بن غفير وسموتريتش وزبانيتهم من أتباع الصهيونية الدينية الصاعدة، وليس بن غوريون وورثته من أتباع الصهيونية العلمانية المتآكلة، فلا بد لهؤلاء "الحريصين" علينا وعلى مصلحتنا ومستقبلنا في هذه البلاد من تذكيرنا و"تحذرينا" وتخويفنا بتهجير ثانٍ، حتى نهرول إلى صناديق الاقتراع لدعمهم وترجيح كفة معسكرهم لنمنع عن أنفسنا نكبة ثانية يصنعها بن غفير وسموتريتش.
أحد هؤلاء وهو باحث معروف يدعى يورام يوفال، ذهب بعيدا في هذا التصور، حيث رسم في مقال نشرته "هآرتس" مؤخرا، سيناريو لتهجير 200 ألف فلسطيني من المثلث الشمالي إلى مناطق ج في الضفة الغربية المحتلة، في حال تشكلت حكومة برئاسة نتنياهو وأصبح بن غفير وزيرا للقضاء وسموترتش وزيرا للأمن الداخلي، وتسفي فوغل وزيرا للأمن، وذلك تحت ستار دخان حرب مع "حزب الله" وادعاء وقوع أعمال عدائية في المنطقة.
السيناريو يبدأ مع انتهاء صلاة الجمعة بتاريخ 31 آذار/ مارس 2023 وبعد سقوط 500 صاروخ على إسرائيل وإغلاق شارع وادي عارة من قبل أهالي المنطقة، حيث يقوم وزير الأمن، فوغل، ووزير الأمن الداخلي، سموتريتش، بإصدار أوامرهما للجيش والشرطة بالشروع بحملة "درع وادي عارة" التي تعني إخلاءً سريعًا لجميع سكان المنطقة ونقلهم إلى مدينة الخيام "دوتان" التي أقيمت لهذا الغرض.
وفي صباح اليوم التالي الموافق الأول من نيسان/ أبريل 2023، تصل إلى قرى وادي عارة 400 حافلة مدنية استأجرتها وزارة الأمن الداخلي، برفقة قوات "حرس الحدود" والشرطة ووحدتين من جنود الاحتياط، مع أوامر إخلاء موقعة من وزير الأمن الداخلي، وبعد إطلاق النار على بعض الذين رفضوا الصعود إلى الحافلات، يصعد بقية المواطنين على متنها وتقوم مجندات الجيش الإسرائيلي بتوزيع المياه والغذاء وحليب الأطفال على ركابها، بينما تقوم الحافلات بنقلهم إلى مدينة الخيام "دوتان" في الضفة الغربية بنجاح. 400 حافلة تتسع كل واحدة منها لـ40 مسافرا وتقوم بـ6 سفريات يوميا، هي كافية لترحيل 200 ألف فلسطيني خلال يومين.
طبعا الكاتب يواصل المسلسل في مقال طويل عريض الهدف منه، أولا وأخيرا، تخويف وترهيب العرب في الداخل الفلسطيني ودفعهم إلى صناديق الاقتراع لإنقاذ المعسكر الليبرالي أو المناوئ لنتنياهو، متجاهلا حقيقتين، الأولى أن الامتناع عن التصويت أو المقاطعة هي حق أساسي تكفله الديمقراطية الليبرالية مثلما تكفل التصويت ذاته للمواطنين، ومفضلا التعامل معنا كرعايا، إذا لم ينفع معنا الترغيب المدفوع بالأموال الأميركية، ينفع معنا التخويف والترهيب والتلويح بنكبة ثانية.
والحقيقة الثانية التي يتجاهلها الكاتب ومن على شاكلته، هي أننا "شبينا على الطوق" وتجاوزنا صدمة النكبة ومرحلة الحكم العسكري ولم تعد ترهبنا هذه السيناريوهات، ليس لأنها غير واقعية بل لأننا قادرون على مواجهتها وإحباطها.
إلا أن الشيء الأساسي الذي نسيه الكاتب المذكور، هو أن السيناريو الذي رسمه، يقوم على مخطط حقيقي لتهجير أهالي المثلث، تم الكشف عنه بعد ارتكاب مجزرة كفر قاسم التي كان يفترض أن تكون إحدى حلقاته، وأن يتم تحت غطاء دخان حرب 1956، وهو مخطط أعده أيضا المعسكر الليبرالي الذي قادته حكومة "مباي - حزب العمل" برئاسة بن غوريون، الذي يعتبر الأب الحقيقي للتهجير والتطهير العرقي والنكبة الأولى.
لذلك عندما نقول إننا لا نخاف من بن غفير وسموتريتش، فهذا يعني أولا أن حقنا في التصويت أو الامتناع عن التصويت والمقاطعة هو حق مطلق يخضع لموقفنا وحساباتنا السياسية فقط، وغير قابل للمساومة والابتزاز، ولا نقبل بأي حال إعادتنا إلى فترة الحم العسكري وربط التصويت بالولاء والبقاء بالولاء.
وثانيا لأننا ندرك أنه في القضايا الإستراتيجية مثل الترانسفير والتهجير وغيرها، هناك مصلحة صهيونية عليا هي من تقررها وليس سموتريتش وبن غفير وغيرهم، ولا نريد أن نكرر ما هو معلوم لدى الجميع من أن عمليات التهجير والقمع والمجازر الأبشع ارتكبت من قبل المعسكر الليبرالي وأحزابه المختلفة.
وتكفي الإشارة إلى ما أوردته الصحافية مزال معلم في كتابها عن سيرة حياة نتنياهو الذي صدر مؤخرا، من أن نتنياهو عندما فاز برئاسة الحكومة للمرة الأولى عام 1996 أمام شمعون بيرس، لم يجد أفضل من شمعون بيرس نفسه لإرشاده في كيفية التعامل مع القضية الفلسطينية ومع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وتروي معلم على لسان المؤرخ ميخائيل بار زوهر، الذي كتب سيرة حياة بن غوريون وبيرس، أن نتنياهو أخبره أنه كان يتصل ببيرس الذي كان يصل إليه في الليالي بسيارات مخفية لكي لا يراه أحد، ويجلس معه طيلة الليل يرشده ويغدق عليه النصح والمشورة، وهي حقيقة اعترف بها شمعون بيرس أمامه أيضا.
وفي السياق، تقول معلم أن هذه القصة تحسب لصالح نتنياهو وبيرس معا، وذات صلة بكل ما يتعلق بالنزاع مع الفلسطينيين الذي كان اختلاف آراء زعماء الدولة حوله، كما تقول، أقل عمقا مما هو ظاهر، بل إنهم يتفقون جميعا حتى هذا اليوم، مع ما قاله دافيد بن غوريون عام 1919، بعدم وجود حل للنزاع، والسؤال هو حول كيف تتم إدارته فقط.