فلسطين أون لاين

للخصوم والأتراب: أنتم أوهنُ مِن نزع إنسانيَّتنا وفلسطينيَّتنا وعروبتنا

أوّلًا: وُلِدتُ وترّبيتُ (ترعرعتُ) في بيتٍ ميسورٍ في قرية ترشيحا من الجليل الأعلى الأشمّ، شمال فلسطين، خرجتُ إلى النّور في عام 1958، أيْ بعد 10 أعوامٍ من النّكبة الّتي حلّت بشعبي الفلسطينيّ، وهي أفظع جريمةٍ ارتُكِبت في التاريخ البشريّ، عايشتُ الحكم العسكريّ الّذي فرضته سلطات الاحتلال علينا، نحنُ أصحاب الأرض الأصليّون، الّذي استمرّ حتى عام 1966، ذُقتُ، كبقية أبناء جلدتي، الأمرّيْن من العنصريّة الإسرائيليّة باستكبارها واستعلائها وفوقيّتها وازدرائها الآخر وحتّى نفيه.

واضطُررت من أجل البقاء في موطني فلسطين، أنْ أحمِل جواز السّفر الإسرائيليّ، وهنا الزمان وهذا المكان للتّذكير مرّةً أخرى: “الحقيقة محسومة، فقد يستاء منها الرّعب، ويسخر منها الجهل، ويُحرّفها الحقد، لكنّها تبقى موجودةً”. وأقولها بكلّ صدقٍ وأمانةٍ وشفافيةٍ لكلّ مَنْ في رأسه عينان: اكتُبوا ما أردتم في الهويّة، سجِّلوا ما طاب ويطيب لكم، هذا لن يُجديكم نفعًا، لأننّا من رحم الأمّة العربيّة انطلقنا، وإلى اللّحد ماضون، والموت حقٌّ، عربًا وفلسطينيّين.

***

ثانيًا: الظّروف القاهرة وقتذاك شطرت عائلتنا، بين فلسطين ولبنان والمهجر، حيث بقي القسم الأكبر هنا في فلسطين، والآخر، بفعل النّكبة، رحل إلى لبنان واغترب إلى المهجر. أذكُر جيِّدًا أنّ والدتي الّتي ارتحلت من هذه الدّنيا الفانية في عام 2012، كانت تُربينا على احترام الآخر، ونبذ العنف، على العزّة والكرامة والاستقامة، وعلى التمسّك بالأرض والمحافظة على العرض، وتقول لي، ولأخي، ولأخواتي الثلاث باللّكنة الفلسطينيّة الجليليّة: “امشوا الحيط، الحيط وقولوا يا ربّي السُترة”، اليوم، وأنا أقترب من إنهاء عامي الـ63، ما زلتُ مُتمسِّكًا بالتّسامح عقيدة حياةٍ، وهكذا ربّيت أولادي الثّلاثة على احترام الإنسان كإنسان بغضّ النّظر عن الانتماء، لأنّ الانتماء للإنسانيّة أهّم من أيّ انتماءٍ وفوق كلّ اعتبارٍ. ترّبيتُ وربّيتُ على رفض العنف بجميع أشكاله، ومُواصلة القبض على الجمر في إطار الحيّز، الضيِّق أصلًا، الّذي تسمح به قوانين الكيان العنصريّة، والتّسامح لا يعني، بأيّة حالٍ من الأحوال، الاستسلام والتّسليم بالواقع المُشوَّه الّذي نعيش فيه، ولا نحياه، والتّأكيد في الوقت عينه على أنّ الانسحابات الّتي تحفظ الكرامة هي بحدّ ذاتها انتصارات.

***

ثالثًا: والله يا أمّي، وأنتِ في الأخدار السّماويّة، أقول لكِ وأقسم بالله إنّي أكره الحرب، ومع ذلك أستعين بمقولة الشّهيد البطل أنطون سعادة الّذي ارتقى دفاعًا عن فلسطين: “إنّنا نُحبّ الحياة لأنّنا نُحبّ الحريّة، ونُحبّ الموت متى كان الموت طريقًا إلى الحياة”، أسوق هذه الكلمات في ظلّ الأحاديث الإسرائيليّة غير المخفيّة، وغير المحصورة في أوساط ما يُسمّى اليسار الصهيونيّ، الّتي تُحذِّر من أنّ عودة بنيامين نتنياهو إلى سُدّة الحكم بعد الانتخابات العامّة التي ستُجرى في تشرين الثاني (نوفمبر) القريب، ستُحوّل دولة الاحتلال إلى أوّل دكتاتوريّةٍ ترتكِز على الفوقيّة اليهوديّة، والتّنبيه بعينه يُشعِل الأضواء الحمراء لدينا، نحن أبناء فلسطين الأصليّين، لأنّنا سنكون الضّحايا، مع ال التّعريف؛ ذلك أنّه رغم أنّ فلسطينيّي الدّاخل، أيْ أراضي الـ48، أوْ وفق التّسمية الصهيونيّة (عرب إسرائيل)، رغم أنّنا نُشكِّل أكثر من 22 بالمائة من سُكّان الكيان، إلّا أنّنا كُنّا وما زلنا وسنبقى أسرى ورهائن المخططّات الشيطانيّة لمُحاصرة حصارنا، ومحاولات نزع شرعيّتنا، بهدف نقلِنا دون موافقتنا إلى مُربّع المُساومة والمُقايضة، لذا لا يستغربن أحدٌ من قيام أستاذٍ جامعيٍّ إسرائيليٍّ وعلى الملأ وبتكرارٍ مُملٍّ بالتّحذير من الخطر الديموغرافيّ الّذي يُشكّله “العرب في (إسرائيل)” (!)، والعمل على طردهم، والإبقاء على قلّةٍ قليلةٍ منهم لقضاء الاحتياجات للمجتمع الصّهيونيّ؛ منها على سبيل الذّكر لا الحصر، جمع القمامة، وهذه التّصريحات الفاشيّة تُمهِّد الطّريق أمام الصهاينة لاقتراح المقايضة الآتية: طرد "عرب الدّاخل" إلى “الدويلة” الفلسطينيّة الّتي ستُقام على أجزاء في الضفّة، مُقابل “إعادة” المُستوطنين الإسرائيليّين من الضفّة إلى داخل ما يُسّمى ”الخّط الأخضر”.

***

رابعًا: ولكي نكون على قدرٍ من المسؤوليّة التاريخيّة نُذكِّر أنفسنا، قبل الآخرين، ونلفِت عناية قيادة السلطة ومنظمة التحرير وأيضًا الزّعماء في الوطن العربيّ من أقصاه إلى أقصاه، بأنّ نتنياهو كان قد أكّد قبل عدّة سنواتٍ بأنّ فلسطينيي الداخل المحتل "يُشكِّلون قنبلةً ديموغرافيةً موقوتة، ويجِب العمل على تفكيكها”، والرّجل، المشهور بكذبه ودجله، يقول في هذا السّياق، الحقيقة الّتي تؤمن بها الأكثريّة السّاحِقة من الصهاينة، والّتي تُريد دولةً يهوديّةً خاليةً من العرب، ما يعني أنّ مُنافسي نتنياهو “الليّبراليّين” لا يقلّون خطورةً عنه، بل الفرق في أنّ رئيس الوزراء السّابِق، وعلى الأغلب اللّاحِق، يقول ما تسعى الأحزاب الأخرى لإخفائه، بل وإنّ ترويجه بطرقٍ وأساليب ناعمةٍ، لمْ تعُد تنطلي علينا، أوْ على سوادنا الأكبر، نحن القابضين على الجمر والمُتمسّكين بوطننا ووطنيتنا، بكلماتٍ أخرى، لا فرق بين الصهاينة جوهريًا وظاهريًا، قولاً وممارسةً، جميعهم يشربون من نفس البئر.

***

خامسًا: العنصريّة في (إسرائيل)، تنتقِل وبسرعةٍ رهيبةٍ إلى الفاشيّة المقيتة، بمعنى أنّه لا فرق بين أفكار نتنياهو ونفتالي بينيت ويائير لبيد، وما تُسّمى ”حكومة التّغيير” الحاليّة بقيادة لبيد، فهي أكثر سوءًا وخطرًا من نتنياهو، وتُمارِس العنصريّة بمهنيّةٍ وحرفيّةٍ يشهد لها الجميع، وتقمع بالفلسطينيّين أينما كانوا، وهي الحكومة الّتي شنّت العدوان الأخير ضدّ قطاع غزّة، وأطلقت العنان لجيش احتلالها باقتحام الضّفّة الغربيّة على مدار السّاعة، لأنّ لبيد وشركاءه هم خرّيجو المدرسة الصهيونيّة ذاتها الّتي لا يُمكِنها أنْ تُنتِج من صفوفها “طلًابًا” يؤمنون باحترام الآخر، وبالتّالي معضلتنا ليست مع اليهود، بلْ مع الصّهاينة، لأنّه لا يُمكِن أنْ يكون هذا أوْ تلك صهاينة وفي الوقت عينه يتبجّحون باليساريّة والديمقراطيّة، فالحتميّة التاريخيّة لا تترك مجالًا للشّكّ: الصهيونيّة والديمقراطيّة، سيّداتي وسادتي، تسيران في خطٍّ متوازٍ ولا تلتقيان أبدًا.

***

سادسًا وأخيرًا: “في زمن الخداع العالميّ يُصبِح قول الحقيقة عملًا ثوريًّا”، قال جورج أورويل، ونحنُ نعيش في حقبة النّفاق، وزمن الغُشّ والدّهاء، لذا أجِد من واجبي الوطنيّ ومن حقّي الإنسانيّ استغلال هذا المنبر لتوجيه مُناشدةٍ لأبناء وبنات جلدتي في الوطن العربيّ: لا تظنّوا، فإنّ بعض الظنّ إثم، لا تظنّوا بأنّنا نعيش في “جنّة عدنٍ”، بل على العكس، ما ينتظرنا، ولا فرق بين حُكّام (إسرائيل) منذ النكبة وحتّى اليوم، ما ينتظرنا هو الأخطر، لذا لا تتركونا كالأيتام على موائد اللّئام، لا نُريد عنتريّات وعمليّات تجميل وتطبيع، بلْ ندعوكم بأنْ تُطالِبوا لأجلنا بحمايةٍ دوليّةٍ، لكوننا جزءًا لا يتجزّأ من الأمّة العربيّة والشّعب الفلسطينيّ، وهذا أضعف الإيمان.

***

آن أنْ تقتنعوا، أنتُم هنا وهناك، من صهاينةٍ، وعربٍ وغربٍ، وأنتم هناك، أنتم وأنتم وما بينكم، إنّكمْ أوهنُ مِن نزع إنسانيّتنا، وشرعيّتنا، وفلسطينيّتنا وعروبتنا.