فلسطين أون لاين

مغلق بأوامر عسكرية.. الاحتلال ومنظمات حقوق الإنسان الفلسطينية

...
معتز الفجيري

صعّدت (إسرائيل) من هجمتها على المجتمع المدني الفلسطيني، باقتحام قوات الاحتلال في 18 أغسطس/ آب الماضي مقارّ سبع منظمات فلسطينية غير حكومية، هي: مؤسسة الضمير لدعم الأسير وحقوق الإنسان، ومؤسسة الحق في خدمة الإنسان (الحق)، ومركز بيسان للأبحاث والمنظمة الدولية للتنمية والدفاع عن الأطفال، ومؤسّسة لجان العمل الصحي، واتحاد لجان العمل الزراعي، واتحاد لجان المرأة الفلسطينية. أغلقت قوات الاحتلال مداخلها، وصادرت عدة وثائق وأجهزة، كذلك أتلفت أثاث المكاتب ومقتنياتها، وعلقت على أبواب المنظمات منشورات بالغلق بأوامر عسكرية بموجب المادة الـ 319 من أنظمة الطوارئ لعام 1945. ذلك القانون الموروث عن حقبة الاستعمار البريطاني، الذي كان الإنكليز يوظفونه ضد المقاومة الوطنية الفلسطينية، ثم وظفته (إسرائيل) للتغطية على جرائم التعذيب في المعتقلات الإسرائيلية، وتبرير الاعتقالات التعسفية طويلة المدة، وقرارات هدم المنازل، وطرد الفلسطينيين. وبعد أيام من هذه المداهمات، أقدم جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشين بيت) على توجيه تهديد مباشر لكلٍ من المدير العام لمؤسسة الحق، شعوان جبارين، والمدير العام للمنظمة الدولية للتنمية والدفاع عن الأطفال، خالد قرماز، بالاعتقال إذا استمرّت أنشطتهما. وقد مهد لهذا التصعيد قرار وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي، بيني غانتس، في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 باعتبار ستّ من هذه المنظمات "إرهابية" بموجب ما يسمى "قانون مكافحة الإرهاب الإسرائيلي" لعام 2016. وليس مصادفةً أن تتوافق (إسرائيل) بوصفها دولة احتلال وحلفاءها من السلطويات العربية في أن يكون الاعتماد المنهجي على قوانين ما يسمى "الإرهاب" المسلك المفضل لهم للانتقام من المجتمع المدني، والمدافعين عن حقوق الإنسان، في عالم أصبح فيه توظيف خطاب مكافحة ما يسمى "الإرهاب" الوصفة الأسهل لشرعنة الطغيان. وكانت مؤسّسة "فرونت لاين" الأيرلندية قد كشفت عن ضلوع (إسرائيل) في أعمال تجسّس ومراقبة إلكترونية ضد قيادات وأعضاء من هذه المنظمات، من بينهم شعوان جبارين خلال عام 2021.

يردّ الاحتلال الإسرائيلي على ما نجحت فيه الحركة الحقوقية الفلسطينية منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي في تحويل القانون وحقوق الإنسان إلى لغة مقاومة سلمية يومية للاحتلال وسياساته الاستيطانية والعنصرية. تُعَدّ مؤسّسة الحق من أقدم منظمات حقوق الإنسان العربية، وقد تزامن تأسيس حركة حقوق الإنسان الفلسطينية في هذه الفترة، مع تصاعد أدوار منظمات حقوق الإنسان الدولية بداية من حقبة السبعينيات. تأسّست مؤسسة الحق في البداية تحت اسم "القانون في خدمة الإنسان" عام 1979 كمبادرة من محامين وقانونين بارزين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كانوا معنيين في السنوات الأولى من عمر المؤسّسة بمواجهة الانتهاكات الجسيمة لحكم القانون من قوات الاحتلال من ممارسات تعذيب واعتقالات تعسّفية، وتوظيف منهجي للأوامر العسكرية وقوانين الطوارئ في الأراضي المحتلة. تطوّرت أجندة مؤسسة الحق واتسعت فيما بعد، متبنية مقاربة شاملة لحقوق الإنسان والقانون الدولي، تعزّزت في عقدي الثمانينيات والتسعينيات. وقد عقدت مؤسسة الحق أول مؤتمر للقانون الدولي في القدس في يناير/ كانون الثاني عام 1988، بالتزامن مع تطويرها أدوات ومنهجيات في رصد انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني وتوثيقها، ونشر تقارير دورية عنها تستهدف الرأي العام العالمي، وتوظيف جميع آليات القانون الدولي، التي كان لها تأثير نوعي في بقية منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والعربية. الحياد والمهنية اللذان اختارتهما مؤسسة الحق طوال مسيرتها جلبا لها تحدّيات تنظيمية وسياسية كثيرة، خصوصاً عندما بدأ فريق المنظمة خلال سنوات الانتفاضة الأولى بالاستجابة لانتهاكات حقوق الإنسان، إلى أن تعزّز هذا التوجّه المتسق في عملها خلال عقد التسعينيات، بالتزامن مع تغييرات هيكلية مرّت بها المؤسّسة على مراحل متتالية. وقد فرض تأسيس السلطة الفلسطينية في أعقاب اتفاق أوسلو عام 1993 توجيه اهتمام المؤسسة وغيرها من منظمات حقوقية إلى ضرورة تأسيس مشروع التحرّر الوطني على حكم القانون، واحترام حقوق الأفراد. ففي أحيان كثيرة، وإلى جانب معاركها ضد سياسات الاحتلال، واجهت هذه المنظمات السياسات والتشريعات السلطوية للسلطة الفلسطينية، ثم الآثار الإنسانية والقانونية للانقسام السياسي الفلسطيني منذ عام 2007.

ترصُد أستاذة القانون في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، لين ويلشمان، في كتابها الصادر عام 2021 عن جامعة كاليفورنيا، "الحق: التاريخ العالمي لأول منظمة حقوق إنسان فلسطينية"، كيف نجحت مؤسّسة الحق وغيرها من منظمات حقوقية فلسطينية في صياغة أجندة حقوقية دولية كجزء أصيل من مشروع النضال الوطني الفلسطيني. وقد ساهم عمل هذه المنظمات، وتفاعلاتها العابرة للحدود، في تفكيك مشروع الاحتلال الإسرائيلي وفهم آليات عمله، ليس فقط باعتباره تمثيلاً لمشروع احتلال، ولكن أيضاً بفهم تقنياته مشروعاً استيطانياً إحلالياً، ونظام فصل عنصري (أبارتهايد). وقد مثّل النضال من أجل العدالة الجنائية الدولية، والمحاسبة الجنائية لمسؤولي دولة الاحتلال، محطة أخرى بدأت في أعقاب الانتفاضة الثانية في بداية العقد الأول من الألفية الثالثة، عبر محاولات حثيثة للمنظمات الحقوقية الفلسطينية، في مقدمتها المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ومؤسسة الحق، في توظيف المحاكم ذات الاختصاص القضائي العالمي في بلجيكا والمملكة المتحدة. ورغم أن هذه المحاولات اصطدمت بسيل من القيود السياسية والقانونية، إلا أنها أربكت الدبلوماسية الإسرائيلية دولياً، إلى أن تكلّلت هذه الجهود، أخيراً، بفتح ملف جرائم (إسرائيل) أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، طريقاً أصبح ممكناً في أعقاب حصول فلسطين على صفة المراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012، وانضمام السلطة إلى نظام روما نهاية عام 2014، استجابة لضغوط من المنظمات الحقوقية الفلسطينية. وقد ساهمت كلّ من "الحق" و"الضمير" و"المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان" و"الميزان" في تقديم تقارير وأدلة هامة للمدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.

بالنسبة إلى (إسرائيل)، كان القانون ويظل في خدمة مشروعها الاستعماري والعنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي ظل استمرار فشل المجتمع الدولي في محاسبة (إسرائيل)، وتهافت بعض الدول العربية على التطبيع المجاني مع دولة الاحتلال، تتمادى (إسرائيل) في عدوانها على الشعب الفلسطيني، وفي تعظيم الدور الغاشم لأدواتها القانونية في حصار حركة حقوق الإنسان الفلسطينية. يقدّم تاريخ منظمات حقوق الإنسان في فلسطين مصدراً ثرياً لفهم كيف يمكن حقوق الإنسان، وأدوات القانون الدولي، أن تمثل مرجعية فكرية وحركية للمقاومة والتغيير. فعلى الرغم مما يشوب منظومة حقوق الإنسان الدولية من مشكلاتٍ بنيوية، والفجوة الهائلة التي تفصل وعود وثائق حقوق الإنسان الدولية عن الواقع الإنساني المزري في مناطق كثيرة، ولا سيما في مناطق الصراعات المسلحة، فإنّ هذه المنظومة تمثل لكثيرين في العالم مصدر إلهام، وتعبئة سياسية واجتماعية في مواجهة البطش، سواء كان مصدره دولة احتلال أو استبداد نظام حكم سلطوي.

المصدر / العربي الجديد