فلسطين أون لاين

​كيف افتتحنا بالبندقية وانتصرنا بالصلاة؟

ليلة الجمعة الماضية 28 تموز (يوليو) كَسَرت إرادةُ المصلّين على باب الأسباط (الأسود) إرادة العدوّ المدجّج بالدبابة والجنود، أزال العدوّ كل إجراءاته التي اعتدى بها على المسجد الأقصى بعد يوم 14 تموز، وحاول بها التمهيد لسيطرة له كاملة على المسجد، بعد ذلك رغمًا عن العدوّ في مشهد كأنه تمهيد ليوم الفتح الأكبر دخل المقدسيون المسجد الأقصى من باب حطّة.

بعد 14 تموز كل الفلسطينيين التصقت أكفُّهم بقلوبهم، خشية على مسجدهم المقدس، ولكنّ العدوّ الخبير بالشعب الحامي للمسجد الأقصى أدرك أنه اقترف حماقة كبرى، وأنّ سعيه كلّه الذي حثّ فيه حثًّا شديدًا في السنوات الأخيرة لتذليل قباب المسجد في طريق دبّابة التهويد، وأنّ تمهيده وبسطه مع بعض من حكّام العرب لكسر هيبة المسجد على الطريق إلى الصفقة الآثمة الكبرى؛ قد تحطّمت على ظهر ساجد بباب الأسباط، ليُجدّد الفلسطينيون رسميًّا إعلانهم فاتحة الزمن الجديد.

بدأت الحكاية بعملية الفدائيين الثلاثة الذين يحمل كلٌّ منهم اسم "محمّد جبّارين"، في رسالة من القدر الذي حملهم على ذراعه من مدينة أم الفحم في الداخل المحتل إلى مدينة القدس، من التقط الأسماء وطبيعة العملية ومكانها وتوابعها أدرك أنها فاتحة كبرى قد ضمّنها حامل المقاتلين الثلاثة رسائله، تلك الرسائل التي كُتبت برَكعات المرابطين على بوابات المسجد المقدّس.

جمعت بندقية الجبّارين الثلاثة المقدسيين على بوابات المسجد، وأخذت حشودهم في الاتساع، وعنادهم في الازدياد، وثباتهم في التجذر، كانت البندقية الصمغ السرّي الذي سوّى صفوفهم في طرقات المدينة وعلى بوابات المسجد، وكانت الفاتحة لواحدة من أعظم رسائل الحكاية الفلسطينية الكبرى، ولن تكون معركة إزالة البوابات الإلكترونية عن مداخل المسجد، وإزالة الكاميرات وأعمدتها وجسورها الحديدية، وفتح باب حطّة؛ إلا رافعة راسخة للفلسطينيين أولًا، ومن خلفهم من عرب ومسلمين ثانيًا في تالي الأيام.

لم تنبت أجساد المصلين المسوّرين لروحهم الكليّة المتجسدة في المسجد من عدم الزمان، وإنما اتّصلت بالكفاح العميق، غير الصاخب، منذ أربع سنوات، منذ تلك الهبّة التي بدأت مع أسر المستوطنين الثلاثة في الخليل، وحرق الطفل محمد أبو خضير في القدس، والملحمة الكبرى في حرب "العصف المأكول" في غزة في 2014م، لم يكن هذا الشعب إلا شعبًا واحدًا، ولم يكن كفاحه في حلقاته الثلاث الأخيرة في الخليل والقدس وغزّة إلا سلسلة متّصلة من الكفاح الوثيق.

في القلب كان المسجد الأقصى؛ ففي الأعوام الأربعة الأخيرة بدا أن العدوّ شديد العجلة لفرض واقع تهويديّ فيه، وقد كان المسجد العقبة الكبرى دائمًا في طريق تصفية القضية الفلسطينية، ومنذ صعود الثورة المضادّة المدوّي في العالم العربي أخذت النشوة بعقل العدوّ الذي توهّم أن الفرصة الآن باتت مواتية.

القوى العربية المجتمعية العميقة الأكثر ارتباطًا بفلسطين والمسجد الأقصى إما مقصاة في ظرف استئصال واجتثاث على يد الثورة المضادة، أو تستغرقها الصراعات والحروب الأهلية، والعدوّ يتمدد قويًّا مهيمنًا سيّدًا مطاعًا في غرف الحكم ببعض أهم العواصم العربية في المشرق، وعلى نحو غير مسبوق، وقد اطمأن إلى أن غزّة قد انشغلت بمأساتها الإنسانية، والضفّة قد دُجّنت، ولم يبق إلا إعلان الانتصار على المسجد، ولكن للحظة، وفي قليل من ليالي الرباط في القدس، وفي ستار مبارك من ليل الحادي والعشرين من تموز، في قلب مستوطنة (حلميش) علم العدوّ أن أمانيه أقرب إلى السراب، وأن كل ما بناه قلعة من قشّ.

اتصلت ليالي تموز المباركة وجمعه العظيمة بمثيلاتها في تموز 2014م، ثم بالدفقة الثانية منها في عام 2015م، ببندقية مقاتلي بيت فوريك (إيتمار) وبسكين مهند الحلبي، التشابه الشديد بين الحلقات الثلاث، لا سيما بين ما افتتحه المقاتلون في عملية بيت فوريك (إيتمار) في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) وعملية مهنّد الحلبي في الشهر نفسه، والحلقة الأخيرة؛ لا يخلو من دلالة.

في ذلك كلّه كانت الطريق تقترب من المسجد أكثر، حتى كانت عملية الجبارين الثلاثة هذه المرّة في المسجد نفسه، تحمل رسالة تخصّ المسجد، والمعركة المباشرة على قضية متعلقة به وحده، أي إزالة عدوان العدوّ المستجدّ عليه، وكسر إرادته في السيطرة عليه.

والحقّ في ذلك كله أن ملحمة غزّة في عام 2014م أعادت طرح الأسئلة على الفلسطينيين في كل مكان، عن دورهم، وواجبهم ووظيفتهم، وقد تأكد أن الفلسطيني يمكنه أن يستنبت القوّة من صحراء العدم، وأن يمرّغ كرامة المصفّحة في تراب غزّة، هذه الرافعة التي خلقتها حرب غزّة لم تظهر على شكل شعار، وإنما في سلسلة متصلة من حلقات الكفاح في الضفة والقدس.

يمكن القول: إن الفلسطينيين، يتصدّرهم المقدسيون هذه المرّة، بانتصارهم في إزالة عدوان الاحتلال المستجدّ على المسجد، وكسر إرادته، وإثبات إمكان كسر إرادته بمحض الصمود والعناد، إضافة إلى الإنجاز الماديّ الفعليّ الملموس بتحقيق إرادتهم؛ قد بلّغوا ما يلي:

أولًا: سلاحنا الأمضى هو الصمود، وهو سبيلنا الوحيد المصاحب لنا، وإن افتقارنا لما يعزّزه في بعض الأوقات لا يعني التخلّي عنه، وفي معركة طويلة مفتوحة سيثمر.

ثانيًا: الكفاح حلقات متصلة، غير منفصلة، كفاح الشعب المتفرّق في الزمان والمكان، أو أشكال الكفاح ما بين المسلّح والشعبيّ، وما هذا الإنجاز إلا تتويج لسلسلة من الكفاح بدأت في 2014م، وما انتصار الرباط بالصلاة إلا ثمرة لبندقية الجبّارين الثلاثة.

ثالثًا: إمكانية تطوير أدوات النضال في ظل التغيرات العميقة التي طرأت على الاجتماع والسياسة في المشهد الفلسطيني، فنضال محلّيّ مكثّف على قضية واضحة يمكن حشد النّاس عليه، يمكن الاستفادة من تجربته لتطويره في بقية الساحات الفلسطينية.

رابعًا: الوحدة التي تحققت خلف مرابطي القدس أساسها وحدة المقدسيين أنفسهم على قضية جامعة، هي قضية المسجد الأقصى، ووحدتهم في الميدان، ووحدتهم في الصلاة، بعد أن حوّلوها إلى أداة للنضال، فلم يكن ثمّة أيّ فذلكة إيديولوجية تافهة تعترض على رمز القضية الذي هو الأقصى، أو على أداة النضال.

خامسًا: المقدسيون كانوا المركز، أو لبّ الفلسطينيين، الذين وحدهم يمكنهم أن يفعّلوا وظيفة الأقصى رافعة للأمة، وبهذا كانت عملية عمر العبد في مستوطنة (حلميش)، وبدء المواجهات في الضفة، والخشية من تمدد القضية إلى الساحات العربية والإسلامية حاسمة في المعركة.

وأخيرًا يمكن القول: كانت هذه المعركة مهمّة جدًّا على صعيد كبح جهود العدوّ الساعية إلى تهويد المسجد، وضربة قويّة لجهود التطبيع التي تشتغل عليها دول عربية باتت معروفة اليوم، كل ذلك ببندقية بدائية وأجساد مصلّين وسكين مسنون.