أنشأ الله الدنيا وخلقها، وبثّ فيها قوانينَ ونواميسَ لا تنحرفُ عن مسارها؛ للدلالةِ على أحَديّته وكونِه أولَ كل شيء، ومن ذلك التوازنُ الموجودُ في كلّ جزئيةٍ مخلوقةٍ محسوسةٍ أو مرئيةٍ ولو كانت معنويّةً.
ولا يفلحُ امرؤٌ يخرج عن سياق اختيار الله في كونه، بل إنه لا يرتاحُ إلا إذا تعرّف إلى هذه "الشيفرة" وتناغم معها، ووجّه أسرارَها في مصلحته وفائدته ونفعِ الناس عمومًا.
وفي القرآن دعوةٌ صريحةٌ ومباشرةٌ إلى الوسطية التي تضمن التوازن على مستوى النفس والواقع سمَّاها "القَوام"، وجعل تجاوزَها -تفريطًا بإهمال، أو إفراطًا بانشغال- علامةً على السوء، ووصفةً للضياع، ودعا إلى الوسط في الإنفاق نفسِه الذي هو من أصدقِ الدلائل على إيمانِ المرء؛ فالتفريطُ بتقتير المرء أو منعِه الصدقةَ لا يختلف في الحكم عن الإفراط بالإسراف الذي يجعل فاعلَه أخًا للشيطان، ولا سبيلَ لتجاوز ذلك إلا بوسطيةِ الحسنةِ الوسطى التي هي "القَوام"؛ فهم "إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا" [الفرقان: 67]، وليست القضيةُ هنا قصرًا على إنفاقِ يدٍ وجيب، بل تتجاوزها إلى إنفاقِ الروح والقلب؛ فإنّ المرء في مشاعره عليه أن يكون منضبطًا ذا هونيّة، لا يدفعها بإذلاق ولا يمنعها بإطباق، ويبتغي بين ذلك خُطّة وِفاق. فلا تجعل روحَك مغلولة إلى عقلك ولا تبسطها في كل ميدان كلَّ البسط فتقعد ملومًا مكسورًا، تندب الحظّ على قوارع الندم، وتعضّ اليد على فوات الصواب.
إنّ المرء إذا بالغ في أمرٍ شغل بالَه، وشلّ فكرَه، وأشعره بوخزات مستمرة، وإذا ترك أمرًا ضروريًّا ملحًّا أضعف قواه وأزعجه تذكُّرُه، ولا مناصَ إلا بأخذ دوره في الحياة ومجاله في العمل، وأن يرابط على ثغر التفاعل الإيجابيّ والانفعال بالحسن والأحسن.
إنّ الوسطيةَ تعني ألّا تؤخّر عمل هذه الساعة إلى التي تليها، وألّا تؤجّل ما هو في إمكانك وقدرتك إلى ما لا تملك فيه معرفةً ولا تدري حالَ مستقبله، فهذا الحسم المهمّ والجدّية في العمل يتيحان أجواءً مفيدة ومريحة لتجعل المرء وسطًا مختارًا لا مضطرًّا محتارًا؛ إذ كلما ضغط المرء على نفسه وأضاع أوقاتًا ثمينةً لم يستطِع أن يكون وسطًا، ولم تكن إنجازاته كما يريد ولا قريبًا ممّا يريد، وكلا طرفيْ قصدِ الأمورِ ذميمُ.
وبالرجوع إلى الآية الكريمة سياقِها سنجد أنّ هذا الوصفَ جاء في سياق الحديث عن عباد الرحمن، وقد جاء واسطةَ عقد الصفات، ومن مظاهر الوسطية فيها بالترتيب المذكور في الفرقان:
ضبطُ النفس دون استفزاز الجاهلين، يستلزمُ المشي هونًا، وهو الوسط ذو سكينة.
الجمعُ بين جناحيِ الرجاء بالصلاة والعبادة والخوف بالاستعاذة من جهنم أسوأِ مقام.
التوحيدُ ضمانُ الاستقرار النفسيّ والانضباط السلوكيّ الانفعاليّ؛ حيث لا إساءةَ لأرواح الناس ولا لأعراضهم.
عدمُ شهادة الزور تبقي المرء على مسافةٍ وسطٍ من الجميع لا يقوده إلا الحقّ، ولا يدفعه له إلا الصواب والصحّة.
ممّا يخلّ بالتوسّط الجلوسُ إلى أهل اللغو وتضييع الأوقات، ولا سبيلَ للمحافظة على الأوقات والسلام الداخلي إلا بترك البَطالة والبطّالين.
الدعاءُ الذي اشتملت عليه معظمُ آيات الفرقان بعد التنويه بعباد الرحمن دليلٌ على أنّه من أجمل وأجلّ سبل الاستقامة على طريق الوسطية أن يمكّنَ المرءُ نفسَه من الوصال مع السماء ليضمن بهذا المدد المباشر أن يظل على خير وفي خير. وفقنا الله وإياكم لكل خير دوما.