إذا كانت الصدقة برهانًا على الإيمان فإنّ الصداقة رتبة لا يحوزها بغير الصدق الخُلّان، إنها حاجة روحية كحاجة الإنسان للطعام والشراب والمتعة، وكما أنّ أجهزته الحيوية لا تستقيم ولا تعمل إلا بمغذّياتها المعروفة فإنّ جهازَه الروحيَّ لا يسير على الجادّة ولا يدرك الحقيقة إلا إذا تزيّن بمُبقِياته على قيد التألق والانطلاق، ومن أخصِّ ذلك الحاجةُ إلى تكميله بالآخر.
ولك أن تتصور من زاوية مهمّة قد يبدو لك غريبًا أنّنا لم ننتبه لها أو لا ننتبه لها لأنها صارت جزءًا اعتياديًّا من حياتنا؛ وهي أنّ الله لم يخلقنا آحادًا متفرقين، يعيش كل واحد منا في صقع من الأرض ناءٍ عن الآخر، يأكل من صيده المباشر، ويشرب من نهره، ويفترش الرمال ويلتحف السماء، بل خلقنا اجتماعيين بطبعنا، نأنس ونُؤنِس، ونَخدم ونُخدم، ونتواصى بالتكامل والتكافل والتناغم والاستفادة بما تفرّق فينا ولم يجتمع في آحادنا إلا نادرًا جدًّا ولا يكتمل.
وهذا يعني بالضرورة أنّ المرءَ كاملٌ بإخوانِه وناسِه، ناقصٌ بغيرهم، وأنهم وإن كانوا يعيشون بأنفسهم وتواصلهم، إلا أنّ أحدهم لا يستطيع التكامل مع ذاته التي قد تودي به أو تؤدي به إلى انحرافات خطيرة كشاةٍ قاصية يأكلها ذئبٌ مستوفِز!
يقول لنا ربنا "الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ" [الزخرف: 67]، فيخبرنا بأمور عديدة حوتها هذه الآيةُ دليلَ تعامل مميز في العلاقات الصادقة:
أولا: إذا كان المعيارُ الذي نبني عليها صداقاتنا في الدنيا ما يمثل لنا الانتفاعَ الحقيقيَّ والسليم في الآخرة، فإنّ هذه الصداقات تحيا وتدوم، ويُكتب لها أن تكون سببًا في رفعة أصحابها يوم القيامة.
ثانيًا: من كانت ارتباطاتهم قائمة على هذا الوصال الجميل فإنّ انعقاد تواصلهم يكون بلا مصلحة، ويدوم ما شاء الله له أن يكون.
ثالثًا: الإشارةُ إلى التقوى معيارًا لأجدريّة الأخلاء المتحلّين بها أن يكونوا من الناجين، يعني أنّ: أصدقكم في الوصال عند الله أتقاكم، وأنّ أحراكم بدوام التمتّع بنعماء الله وإنجائه في الآخرة أتقاكم، وأنّ التقوى تقف حائلًا دون اجتماع الأصدقاء الصادقين في غير الجنّة.
رابعًا: الخلُّ الحقيقيُّ هو من يدلّ خليله على طريق الحق والهداية، ويعصمه ما استطاع أن يواقع أسباب الخسران والغواية، ويعدّ ذلك أحدَ أخصِّ واجبات العمل الأخويّ الراقي.
خامسًا: تبيّن الآيةُ خطورةَ الصداقة، وأنّ المرءَ يتأثر كثيرًا بصاحبه، وأنّ الغرابَ إذا كان دليلَ قومٍ يمرّ بهم على الجيَف، وإذا حلّق مع الصقور ارتقى، وإذا كان مع سرب الحمام وجد قلبه وصوته جميليْن، وأفاد من ذلك إخوانَه كحامل المسك؛ يحذيهم، أو يهديهم، أو يمتعهم فيرضيهم.
سادسًا: "يومَئذ" تضبط إيقاع الوصال هذا "اليوم" هنا؛ ذلك أنّ العامل في دنياه من مدخلِ نظره وتبصّره في أمور أخراه ينضبط حالُه بمستوى اللسان والجنان والأركان؛ ذلك أنه لا يختار إلا الصداقة التي ترضي الله يوم القيامة، والتي لا تكون سببًا لإثقاله أو أن تكون حجةً عليه لا له تطيل حسابه، وتيبّس فؤاده، وتبطل حجته، بل يختار منها ما كان وثيقًا مفيدًا نافعًا خفيفًا.
فاللهم اجعل لنا من صداقاتنا رشدًا، واسقها من معين التقوى ما يكون لنا شافعًا مشفعًا.