يحدثُ أن تكونَ عند المرء طاقةٌ سلبيةٌ ضاغطةٌ يحاول تفريغها بأي طريقة كانت حتى وإن كان يقينُه يخبره أنها خطأ أو ليست دقيقة، أو أنه ربما يكون مستعجلًا في استعمالها.
وتكون هذه السلبيات ناشئةً من نفس تعصي وتخطئ وتكرِّر ذلك، أو صديق يحضّ على الشرّ ولا يدفع، أو أهلٍ يخدِمون ولا ينظرون إلى وراء، أو رَبِّ عمل قاسٍ جافّ غليظ، أو تراكمات أعمال معلّقة تقصيرًا أو انشغالًا أو تشاغلًا حتى أتى حينُها من الدهر ولم تكن الطاقة وقتها شيئًا مذكورًا، أو لعلها ملامة نفسٍ لشيءٍ فات أو ضُيّع.
فربّما أتى أحدُهم لأحدِهم يريد أن يذكر له هذا السبب عينَه، فإذا به ينسلُ له أبناءٌ وبنات، وأحفادٌ من أصولٍ وعلّات، فإذا ما كان عنده شهوةٌ للكلام وصادف من كانت عنده شهوةٌ للاستماع، فويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب!
يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم ليريحنا أكثر ويجعلنا مشرقين أكثر؛ ويخبرنا في ثوب بلال رضي الله عنه أن "أرحنا بها" يعني الصلاة، التي إذا استشعر المرء معناها، وأدرك أنّ من أدنى خصالها وأرقاها أنّ المرء إذا حزبه أمرٌ أو ضَيّقت عليه مسألة أو ناسٌ فإنّ سجدةً صادقةً كفيلةٌ بأن تفرّغ ما عنده من شحنات السلب وطاقات الضغط والمشأمة، وأنّ دعوةً بيقين قمينةٌ بأن تريحَه أو تعوّضه أو تعجل بخلاصه وفكاكه، وأنّ بثًّا للهم والشكوى لله دون عتبٍ يجعل المرء أكثر راحةً واسترواحًا.
إنّ الصلاةَ تعني أن تنسى الدنيا وتحضرك الآخرة، وأن ترتع في رياض الجنة روحُك، وأن تتريّض أركانُك، وأن تستشعر المعية الإلهية بالوصال معه، تخاطبه، وتدعوه، وتتذلّل له وترجوه، وتحلّق في آفاق السعد جهدَك بتعلقك بصاحبه ومسبّبه، ليس على سبيل التخدير عندما تقرأ مثل هذا، بل على سبيل اليقين بمن أعطاك بالصلاة مفاتيح التنفيس والتفريغ. أتدري لمَ؟
لأنه التنفيس المطلوب الآمن، الذي لا تفكّر بعده، ولا تنعى على نفسك، ولا تشعر أنّ لك ظهرًا مكشوفًا، ولا أنّ ثقلا تستدعيه أو يستدعيك فيرتبط الألم بك شرطيًّا.
إنّ من أظهر أركان الصلاة ركنًا لا يفارقها، يبدأ قبلها، ولا ينتهي بالتسليم؛ ألا تذكر أنك مأمور أن تأتي صلاتك بوقار وسكينة إعدادًا مسبقًا، وأن تكون في كل صلاتك مطمئنًّا إذا استقمتَ أو ركعتَ أو سجدتَ أو رفعتَ من ركوع أو سجود، إنك مأمورٌ بالطمأنينة في قراءتك وتلاوتك، وهذا عين التدبّر، وفي تسبيحك وأذكارك، وهو مفتاح طمأنة قلبك وابتعاده من وجل وخوف، حتى بعد التسليم أذكارُك معك وسكينةُ المصلين تفرد عليك أجنحتَها، حتى إذا كنت مرةً غيرَ مطمئن متعمدًا سرقتَ في صلاتك ومنها، وسمحتَ للشيطان أن يتدخل ويوسوس، وهو منك بعيد وعنك قصيٌّ لو أنك لم تتِح له هذه الفُرجة ولم تبِح له هذه الفرحة.
أتدري ما معنى التنفيس بالصلاة؟
أن تنويَ أن يغادرك ما سوى الله، فلا يحل غيرُ الأُنس ورعاية القلب، وأن تكبّر فتستشعر أنه أكبر من وخز روحك وتعب نفسك، وأن تقرأ الفاتحة فتفتح لك آفاق الوصال بكلام اللهَ سبحانه بلا واسطة، وأن تركع فتطمئن إلى أنك في حضرة العظيم الذي لا يردّك صفرًا، وتسجد فتطمئن أنك في رحاب الأعلى الذي يبدل تذللك له ارتقاء ورفعة، وأن تصليَ على الرسول صلى الله عليه وسلم فتكون الصلاةُ مدًّا للشفاعة، وأن تسلّم فتطلب السلامة من آفات الدنيا وانحرافاتها، ومكدّرات الروح ومنغّصاتها.
ثم تعلم باليقين العمليّ حينها أنّ "أرحنا بها" منهاجُ حياة حتى إذا أردت النشاط في أعمالك وأمورك، وأنّ الفرارَ إلى الله فرارٌ من المشظّيات والكواسر، رعاك الله وأيدك.