فلسطين أون لاين

​"يتشرّب" الطفل أخلاقه

عندما يأخذ الشارع دور المربي خلال العطلة الصيفية

...
غزة - خاص فلسطين

منذ أن بدأت العطلة الصيفية لطلبة المدارس، وليل "فرح" تحول إلى نهار، بفضل مظاهر الحياة الصاخبة صيفًا، التي تدب في شارع بيتها، حتى قرابة الواحدة ليلًا من كل يوم؛ فدار الجيران المكونة من أربعة طوابق، وكلها تحتوي على أطفال تتفاوت أعمارهم بين 5 و14 عامًا تصبح مثل "وكالة من غير بواب" كما يقولون، عندما تترك كل أم أطفالها في الشارع حتى تلك الساعة المتأخرة، بدعوى "ماذا سيفعلون في البيت؟!، على الأقل في الشارع يجتمعون وينشغلون معًا".

أما عن هيئة الأطفال فحدث ولا حرج: شعرهم أشعث، وثيابهم متسخة، والدم يغلي في عروقهم تحت حر الشمس، يتربى معظمهم على جرعات مما يمكن أن نسميه "أخلاقيات الشارع"، حيث الألفاظ النابية، والتصرفات غير المحسوبة أحيانًا من قبل المارين، فضلًا عن الكثير من المخاطر الصحية المحدقة بهم نتيجة اللعب الطويل في الرمال، وعدم غسل الأيدي بانتظام، حتى قبل تناول الطعام الذي تحضره لهم أمهاتهم على هيئة شطائر يأكلونها في مكانهم بدلًا من دخول البيت وإرهاقهن بوقت تنظيفٍ إضافي.

مبررات واهية

"محمد حجو" يتحدث عن جيرانٍ له في الشارع بالحال نفسها: "لا يدخلون بيتهم إلا للأكل أو النوم، وأهلهم لا يسألون عنهم أبدًا، بل إن أحدهم إذا دخل البيت في وقت نوم أبيه سمعت صراخ الأخير عليه كي يعود إلى الشارع ويكمل هو نومه".

ويصف بعض أحوالهم فيقول: "يستيقظ الرضيع في سن العام والنصف أو العامين، فينزل إلى الشارع بلا حفاظة، يبقى ساعة أو ساعتين حتى تتذكر أمه أن تناديه ليرتدي ملابسه، ثم تصحو أخواته فتخرج الواحدة منهن وعيناها مغمضتان من فرط النعاس، لا ترتب شعرها ولا ملابسها، ويمضي اليوم كسابقه حتى وقتٍ متأخر"، مشيرًا إلى أن أحد أبنائهم _وهو بسن 15 عامًا_ أمسكه والده يدخن السجائر أخيرًا مع مراهقين آخرين في بيتٍ مهجورٍ قريب.

يعلق ضاحكًا: "المشكلة أنه ضربه على مسمع الشارع ومرآه، مرددًا عبارة: (ولك أنا هيك ربيتك؟!)"، متسائلًا باستهجان: "عن أي تربيةٍ يتحدث والشارع هو من يربي أبناءه في الحقيقة؟!".

ويبرر بعض الأهل ترك أبنائهم في الشارع مدة طويلة دون تقييدهم بوقتٍ محدد بضيق مكان السكن، أو كثرة عدد قاطني البيت، وما يسببه ذلك من صخب داخله، مع تأكيد توفيرهم لكل احتياجات أطفالهم المادية، دون أن يعرفوا أنها لا تُقارن أصلًا باحتياجاتهم التربوية والعاطفية في ظل أسرةٍ تعلمهم القيم والأخلاق.

مغريات الخروج

ويقول مدير مركز التدريب المجتمعي وإدارة الأزمات الدكتور درداح الشاعر: "إن السنوات الأولى من عمر الطفل تشكل قاعدة رئيسة لبناء ضميره وشخصيته، وأي خلل في التنشئة خلال تلك المرحلة قد يتسبب في خسارة المجتمع شخصًا منتجًا قويم العقل والنفسية مستقبلًا".

ويضيف لـ"فلسطين": "من الأسباب التي تدفع الأطفال إلى الشارع زيادة وقت الفراغ، عندما يجد الطفل نفسه بين أربعة جدران لا يحرك ساكنًا ولا يقدم شيئًا يفضل الخروج، لعله يجد ما يشغله في الخارج: ابن جيران آخر مثلًا يشاركه في اللعب، أو بائع المثلجات المتنقل الذي لا يعرف أهل الحي شيئًا عنه ليسمع قصصًا منه، أو يرصد المشاهد بينه وبين الزبائن بكل تفاصيلها".

أن يكره الطفل البيت هذا طبيعي، إن لم يجد فيه ما يغريه للبقاء، بحسب قول الشاعر، يفسر ذلك: "الأم تقضي وقتها منشغلة بتصفح (الإنترنت) أو تنظيف البيت، أو النوم، فلا تساعده على قضاء وقت ممتع بتعليمه ما يفيده من أشغال يدوية مثلًا، ولا تشاركه في مشاهدة التلفاز لشرح قيم المسلسل الكرتوني، ولا تطلب منه مهام يومية كالمساعدة في التنظيف، أو المشاركة في زراعة حديقة البيت وتجميله".

ضياع قيمة الوقت

الوجود المستمر في الشارع يطمس (والقول للشاعر) قيمة الوقت في ذهن الطفل، فيتربى على أن يحركه الوقت لا أن يحرك هو الوقت، فيبقى في الشارع حتى يحين وقت الطعام أو الشراب، يأكل ويشرب وينام، ثم يعود إلى الشارع بلا أي فائدة أو عمل، يعقب: "ذلك لأن العلاقة تكاملية بين زيادة وقت الفراغ، والرغبة في البقاء بالشارع".

وبعيدًا عمّا يتسبب به بقاء الطفل في الشارع من مخاطر اجتماعية ونفسية يكفيك ما سيتشربه من قيم تربوية خطأ، وعنف معنوي وجسدي، وكذب، وسرقة، وتسلط، وعصبية، واهتزاز في الثقة بالنفس والشخصية.

يعلق الشاعر: "يصبح الطفل الذي يربيه الشارع نهاية المطاف شخصًا منبوذًا في محيطه، الجميع يقرّ بأنه لم يتلق أي تربية سليمة، وهذا كله يظهر عندما يكبر، إذ ينعكس على سمعته وأخلاقه وتصرفاته، وما قد يذيعه الناس عنه أو يتحدثون به عن شخصه".

وهنا الحل، يدعو الشاعر لتقنين خروج الطفل إلى الشارع، ومراقبة علاقاته هناك، وإشغال وقته بما يفيده ويشعره به بأنه صاحب إنتاج، بعيدًا عن أن العطلة الصيفية وُجدت للراحة، والتذكر دائمًا بأن ما يتشربه الطفل في الصغر هو ما سيكون عليه في الكبر.