فلسطين أون لاين

العدالة الدولية بين الانحياز والإنصاف

على الرغم من الاهتمام الدولي الذي حظيت به قضية فلسطين في ظل الصراع القائم مع الاحتلال الإسرائيلي فإن هذا الاهتمام لم يأخذ منحى يمكن أن يكون منصفًا مع الفلسطينيين، الأمر الذي شكل غطاء لجرائم الاحتلال وضوء أخضر لمواصلة العدوان خصوصًا في ظل غياب خطوات دولية حقيقية يمكن أن تضع حدًّا لما يقترفه الاحتلال بحق الفلسطينيين، على حين بقيت القرارات والمواقف الدولية تراوح مكانها ما بين "الشجب، والاستنكار، والدعوة لوقف استخدام القوة المفرطة، أو ضرورة العمل على استئناف التفاوض لإيجاد سبيل مناسب لإنهاء الصراع".

وفي أحيان كثيرة المساواة بين ما ترتكبه قوات الاحتلال من جرائم مروعة وبين أعمال المقاومة المشروعة، وقد تبالغ بعض الأطراف الدولية لإدانة وتجريم أفعال المقاومة، وفي ذات الوقت تتفهم حق الاحتلال في الدفاع عن نفسه في أكثر المواقف انحيازًا للاحتلال على حساب دماء الفلسطينيين الأبرياء، على حين بقيت المحاكم الدولية والتي تعد ملاذًا أخيرًا قاصرة بل عاجزة عن إيجاد حل أو إصدار حكم مفصلي يتقرر في ضوءه وقف العدوان وإنهاء الاحتلال.

ففي القضية التي قدمت طرف المحكمة الجنائية الدولية فيما يخص فلسطين والتي على أثرها أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في ديسمبر 2019 عن نيتها فتح تحقيق رسمي في (جرائم حرب) محتملة ارتكبت في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، وقد طلبت من الدائرة التمهيدية لهذه المحكمة العمل على تحديد مدى صحة الولاية القضائية على الأراضي الفلسطينية قبل مباشرة التحقيق في هذه الدعوى.

وأيضًا القضية الأخرى التي قدمت في سبتمبر 2018 أمام محكمة العدل الدولية والتي اختصمت فيها الولايات المتحدة الأمريكية على إثر نقل سفارتها إلى القدس، إذ ومن خلال تفاصيل هذه الدعوى تتهم دولة فلسطين الولايات المتحدة بانتهاك (أحكام اتفاقية فيينا) عبر نقل السفارة من تل أبيب إلى مدينة القدس، وذلك لكون اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية نصت على؛ "إنشاء البعثة الدبلوماسية للدولة على أراضي الدولة المستقبلة"، وهذا يعني أن القانون الدولي لا يعد مدينة القدس أراضي تابعة لدولة الاحتلال.

كل من القضيتين أمام الجنائية الدولية، والعدل الدولية واجهتا عدة إشكالات جعلت هذا المسار أكثر صعوبة وتعقيدًا في ظل الخلاف الفقهي والدولي حول (دولانية فلسطين) لأن ذلك يعد ركيزة أساسية أمام تلك المحكمتين، لأن قرار هذه المحاكم متوقف وبدرجة أولى على اعتبار الأراضي الفلسطينية (دولة) بالمعنى القانوني الوارد في النظام الداخلي أو الأساسي لتلك المحاكم حتى يتم المضي في مباشرة هذه الدعوى، الأمر الذي جعل هذه القضايا أمام عقبات كبيرة تحتاج إلى مزيد من النضال من قبل الفلسطينيين لانتزاع قرارات بالسيادة الكاملة على أرض فلسطين، ولا نعني بذلك التأثير على قضاة المحاكم الدولية إنما السعي لانتزاع قرارات دولية تعزز المركز القانوني للفلسطينيين بحيث ينظر العالم لفلسطين على أنها دولة تتمتع بكل الحقوق، وهذا بدوره سيعزز من أي جهد أمام المحاكم الدولية والتي ما زالت مترددة في ظل الخلاف القائم والاجتهادات الدولية حول وضع فلسطين.

لكن اللافت في هذا السياق أيضا الموقف القانوني المتناقض الذي تتبناه السلطة الفلسطينية وتدفع به أمام المحاكم الدولية، فقد اعتمدت السلطة في أسانيدها ودفوعها القانونية أمام محكمة العدل الدولية على قرار الجمعية العامة رقم 181/1947، (قرار خطة التقسيم) إذ إنه وبموجب هذا القرار تعد القدس والأماكن المحيطة بها تحت الوصاية الدولية، ويشير طلب فلسطين إلى أن القرار يحظر اعتبار القدس تحت سيادة أي دولة وبالتالي: فإنه من غير المقبول نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.

كما أن السلطة الفلسطينية تعتقد أن مجرد الموافقة على فتح تحقيق من قبل المحكمة الجنائية الدولية كافٍ لإجراء تحقيق رسمي في الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها (القدس)، وذلك لكون السلطة تعد أن اختصاص المحكمة ينعقد حال موافقة الدولة على ذلك، وهذا ما يكشف وبشكل لافت مدى التعارض القانوني الجسيم فيما تدفع به من أسانيد أمام المحكمتين، خصوصًا في ظل دفعها بأسانيد متناقضة حول القدس فتارة تعدها منطقة لا تتبع لأي دولة وهي ضمن الوصاية الدولية وتارة تعدها ضمن الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لذلك فإنه من الضروري الانتباه جيدًا إلى أن غياب العدالة الدولية فيما يتعلق بفلسطين وتباطؤ المحاكم الدولية عن نظر هذه الدعاوى تحت ذرائع وحجج مختلفة، وتقاعس المجتمع الدولي عن القيام بواجبه الأخلاقي تجاه جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وبقاءه ضمن مساحة المواقف الشكلية المنددة، والانحياز في حالات مختلفة للرواية التي يصدرها الاحتلال، ليس فقط هذه التحديات وحدها التي تعوق الفلسطينيين عن نيل حقوقهم، إنما هناك أسباب فلسطينية داخلية تجعل إمكانية تحقيق مكاسب صعبة للغاية في ظل عدم استعداد السلطة الفلسطينية للذهاب في هذه المعركة القضائية لأبعد مدى، خصوصًا أنها لا تعد (الميدان القضائي) أولوية وتستخدم مثل هذه الخطوات للضغط على الأطراف الدولية لتحريك قنوات التفاوض وإعادة احياء ما يسمى عملية السلام والتي تشكل طوق نجاة لهذه السلطة بعد أن فشلت في تحقيق أي هدف وطني وأصبحت أكثر عزلة عن جمهورها الفلسطيني وفقدت الكثير من الحلفاء بسبب المتغيرات في المنطقة، وعجزت عن تجديد شرعيتها القانونية.