"الله لا يثقل عليّ، والله يهونها عليّ"، بهذا الدعاء استذكرت سجى النبالي جدتها التي دافعت ببسالة عن المسجد الأقصى وباحاته ولم تبرح الرباط فيه وقد بلغت العمر عتيا.
رحلت الجدة سارة النبالي بهدوء عشية العام الجديد، بعدما امتنعت عن الطعام فجأة.
تقول الحفيدة التي لطالما لازمت مجالسة جدتها: "أراد عمي أن يأخذها إلى طبيب آخر للاطمئنان بعد أن أكد الأول سلامتها من أي عوارض مرضية، وفي الطريق إلى القدس فاضت روحها بهدوء، بلا ألم أو ضجيج، راحت ستي".
رحلت الحاجة "أم وليد" وتركت مكانها في المسجد الأقصى فراغا، فهي التي لم تبرحه إلا للضرورة القصوى، وقصدته يوميا من بيتها في حي رأس العامود جنوبي المسجد، لتصلي فيه من الصباح الباكر إلى العصر، حتى أمست أيقونة، يعرفها رواد المسجد ويأنس الأطفال بحكاياها.
عُرفت "سنديانة الأقصى" كما لقبها المقدسيون، برباطها وصلاتها في المسجد منذ نصف قرن، واشتهرت باعتراضها الشجاع على اقتحام قوات الاحتلال ومستوطنيه للمسجد، وصراخها عليهم بكلمة "انقلعوا" يوم سدوا طريق المارين إلى إحدى بوابات صحن المسجد، فتناقلتها الألسن من بعدها، وغدت وسما وطنيا رائجا.
لم يكن هذا الفعل المقاوم، الوحيد الذي حفظته الذاكرة للأم التسعينية لسبعة أبناء، والجدة لأكثر من ثلاثين حفيدًا في فلسطين وخارجها، ففي آخر مقطع مرئي لها قبل وفاتها بأسابيع قليلة، تظهر الجدة وحولها بضعة حراس في عمر أحفادها، وهي تروي لهم كيف ردت على جندي من قوات الاحتلال يوم أوقفها ذات يوم في أثناء دخولها الأقصى.
تقول بلكنتها الفلاحيّة: "بسألني قديش (كم) عمرك، بقله بحّر (انظر)، قبل ما تخلق إنت وعيلتك أنا كنت في الأقصى"، وخلال حديثها تردد جملة "في سبيل الله"، وتعد على أصابعها أسماء ولايات أميركية زارتها لترى أحفادها، وتفخر بأنها أدت فريضة الحج مرتين واعتمرت 5 مرات.
كان جدول حياة الحاجة سارة بسيطًا غير مزدحم بتفاصيل الحياة اليومية إلا من قضية وهبت نفسها إليها؛ "مرابطة في سبيل الله"، بعد وفاة زوجها باكرًا. تخرج من بيتها في التاسعة صباحًا إلى الموقف الذي تنقل منه باصات "قوافل الأقصى" المرابطين إلى ساحات المسجد، حيث تمكث فيه إلى ما قبل غروب الشمس.
نصف قرن من الرباط
في مقتبل حياتها، عاشت سارة النبالي مع زوجها -الذي رحل باكرا- عند سفوح جبل الزيتون شرقيّ المسجد الأقصى قرب كنيسة "الجثمانية"، ومنذ أيامها تلك وهي تقصد المسجد للصلاة.
كانت تمشي مسافات تعد طويلة وشاقة لامرأة في عمرها، تدخل باب الأسباط وتجلس على مصطبة أو حجارة في طريقها لترتاح، وأينما جلست صلّت ركعتين، حتى تصل إلى مصلى باب الرحمة أو قبة الصخرة أو المصلى القبلي، الأمر الذي أعطاها قوة في البدن وضياء في الوجه.
تراها تجلس في الباحات على مرأى من أعين المستوطنين وجنود الاحتلال، لا يتوقف لسانها عن الدعاء، ولا تتوانى عن مواجهتهم بلسان الواثق بنصر الله.
في أعوام رمضانية خلت، وقبل انتشار المركبات، كانت الحاجة سارة ورفقائها يمشون من رأس العامود إلى الحرم سيرًا على الأقدام، يقيمون صلاة الصبح حاضرة، "لم يكن هؤلاء الخنازير يكدموا علينا"، تقول بلهجة فلاحية في إحدى التسجيلات، متأسفة لما آل إليه حال "الحرم" من اقتحامات يومية تحت حماية جيش الاحتلال.
امتازت "سنديانة الأقصى" بارتدائها الأثواب التراثية والشالات القطنية صيفا والصوفية شتاء، وملازمتها لمسبحة مئوية بنية اللون من بذور الزيتون، التي تمررها بين أناملها ذاكرة الله، ساخطة على منتهكي بيته المُقدّس.
كان حضورها ماتعا سارّا كاسمها، ففي سعة وقتها داخل الأقصى كانت تتبادل أطراف الحديث مع رواده، ويتحلّق حولها حراس المسجد لتروي لهم حكايات الماضي وذكرياتها التي تحتفظ بها داخل ذاكرة قوية لم يؤثر فيها الزمن.
ومع رحيلها يفقد المسجد الأقصى نهاية عام 2021 نحو 10 من مرابطيه ورواده البارزين، من بينهم غسان يونس الملقب بأبي هريرات الأقصى، وبدر الرجبي، وإبراهيم صيام، وعبد العزيز العباسي، وأم راتب بدران.