بعد نهار مزدحم بمشاق الحياة تحت وطأة حرب الإبادة الجماعية في غزة، آن أوان البحث عن وسيلة مواصلات من وسط دير البلح إلى خيمة النزوح على بعد عدة كيلومترات، ولم يكن متاحا سوى عربة يجرها حمار.
وصحيح أن ركوب عربات تجرها الحيوانات كوسيلة مواصلات وفي قلب المدن بعام 2024 هو بمثابة ضرب من الخيال، لكنه حقيقة تسبب بها المحتل الذي يتفنن في تعذيب الغزيين وتنغيص حياتهم.
لكن المفارقة ليست هنا، وإنما في رذاذ عطس حمار نالني شيء منه لكنه أصاب مباشرة، ككرة قدم قذفت في المرمى، وجه غزي آخر كان تخوفه الأول أن يحدث شيء من هذا القبيل، بينما نجلس في آخر العربة.
ذلك لأن الحمير والخيول تقتحم العربات المتقدمة عنها وتلقي برؤوسها في أحضان الراكبين الذين يتفاجؤون بها وتتفاوت ردود أفعالهم بين من يصرخ ومن يبتلع الأسى أو يبتسم على قاعدة "شر البلية ما يضحك".
لكن إذا صرخ الراكب قد يأتيه الرد سريعا من مالك الحمار الذي "تعدى" على الراكبين في عربة أخرى أمامه بأن هذا الحيوان "لا يعض!".
وعندها يجهد الراكب نفسه بإقناع مالك الحمار هذا بأنه لا يخاف عضه وإنما ينأى بنفسه عن أن يصيبه سعاله أو عطسه أو سيلان أنفه!
ومع الازدحام الشديد لمئات الآلاف من الغزيين المجبرين على النزوح في دير البلح، لا تكاد الطرق تتسع لسيل من العربات التي تجرها الحيوانات ويسعى أصحابها لكسب الرزق عبر نقل الركاب المفتقرين إلى وسائل المواصلات الأخرى.
ونتيجة لذلك كثيرا ما يجد الركاب على تلك العربات أقدامهم المتدلية عرضة للسحق من قبل عربات مجاورة، وقد نال العديد منهم نصيبه من الإصابة على هذا النحو، وأحزنتني يوما طفلة انهمرت دموعها الممزوجة بالقهر عندما تعرضت قدماها لحادث مشابه.
وغالبا ما يلقي بعض سائقي العربات اللوم على بعضهم البعض في مثل هذه المواقف دون أن يتحدد في النهاية من المذنب، لكن "الضحية" معلوم بالضرورة!
وإذا كان الغزي المغلوب على أمره "محظوظا" فقد يجد مكانا له في "عربة نصف نقل" مخصصة للبضائع وما شابه لكنها تقل اليوم ركابا وتتسع لبضعة أشخاص فقط غير أنها في الواقع لا تتحرك إلا بأضعاف مضاعفة من حمولتها مع ارتفاع ثمن السولار الشحيح الذي يمنع المحتل دخوله إلى القطاع في جملة البضائع والمساعدات المتراكمة على بوابات غزة.
وحتى مع لجوء بعض السائقين إلى استخدام الزيت النباتي بديلا عن السولار فإنهم باتوا بلا حيلة مع شحه في الأسواق أيضا.
وإذا قرر الغزي المنهك والقابع تحت وطأة القتل والتجويع والتعطيش السير على الأقدام فإنه سيصادف حتما عوادم عربات تتسلل إلى جهازه التنفسي المهيأ لالتقاط الأمراض المعدية بسهولة ويسر.
وفي حال حالفه الحظ الأكثر سعادة وحظي بالركوب في سيارة أجرة "أربعة ركاب" وضحكت له الحياة بالمقعد المجاور للسائق فإن هذا المقعد بات مخصصا لراكبين، عدا عن راكب آخر يشارك السائق ذاته مقعده وبذلك تصبح حمولة هذه السيارة الحزينة سبعة ركاب على الأقل وأحيانا تسعة إذا قرر مالكها نقل شخصين آخرين في شنطة مركبته.
وعلى الأرجح تجر معظم سيارات الأجرة هذه عربات أخرى تتسع لنحو 10 ركاب آخرين يتشاركون همومهم في رحلات قد تطول بسبب الازدحام رغم قصر المسافة.
ويا لبؤس الغزي الذي يحتاج وسيلة مواصلات ملحة في جنح الظلام، ويجدها مستحيلة التوفر، فيصول ويجول دون جدوى.
والمأساة في ذلك أن هذا المسلسل من المعاناة هو بحلقات وأجزاء لا متناهية، ولا تتوقف إلا بإنهاء حرب الإبادة الجماعية.