أعترف.. نعم أضربه بعنف دائمًا.. برغم الندم الذي يأكل قلبي في كل مرة بعد أن تهدأ أعصابي ويزول المؤثر الذي أفلت غضبي من عقاله.. تأنيب الضمير لم يكن يترك لي فسحة أشعر من خلالها بقليل من الراحة.. وعود كثيرة أُبرمها مع نفسي.. ستكون هذه آخر مرة أفعلها، سأضبط نفسي مهما حدث، سأكتفي بالكلام ولن أستعمل يدي لتربيته وتوجيهه وتعليمه السلوكيات الحسنة التي يرغبها من حولي ويضغطون علي لأجعله يكتسبها وتُبح جزءاً من تركيبه النفسي.
المصيبة أنني كنت أنقض العهود في كل مرة.. ففي أول سلوك يسلكه ويكسر به التعليمات الصارمة والتي لا حصر لها التي أُقيده بها ويمليها عليَّ من حولي بحثاثة، تذهب أحاديثي الداخلية ووعودي في مهب الريح.. يتفطر قلبي حزناً ورأفة وشفقة عليه وعلى نفسي، أجلس قرب وسادته في أثناء نومه الوادع، أتأمل وجهه الناعم البريء وابتسامته التي تلوح خلال أحلامه مثل بدر السماء في الليلة الغائمة، تنساب دموع الأسى من مقلتي رغماً عني..
أجلد نفسي بسياط اللوم والتقريع.. إنها ذات السياط التي أجلده بها في النهار وبذات القسوة، أوجهها نحو نفسي في ظلمة الليل.. وآه لهذه الحياة المنهكة التعيسة!
أقسم أنه لم يكن ذنبي.. وهو ليس ذنبه كذلك! ولكني أُسقط ما يعتمل داخلي من بؤس عليه، رغم أنه مجرد طفل بريء ليس إلا.. وهو مجرد ضحية مثلي تماماً!
لم أمكث مع والده سوى بضعه أشهر! تركني بعدها ورحل إلى مجهول لا أعلم عنه شيئاً.. طالما توجست من غموضه وشرود ذهنه بعيداً في الأوقات القليلة التي أجتمع معه فيها، وهو الذي يأخذه شقاء الدنيا طوال النهار وشطراً من الليل، يجالسني وقد غلبت عليه قلَّة الكلام وضيق الصدر وسرعة الغضب.. لدرجة أنني لم أستطع يوماً أن أفهم أو حتى اُخمن ما يعجبه وما يمقته، ما يريد وما لا يريد.
حتى جاء ذلك اليوم..
قبله بأيام لاحظت شروده وقد ازداد عن حده، وكأن أمراً ذو بال يشغله.. أقبل الليل ومضى شطره دون أن يعود.. سألت عنه من حولي والقلق والترقب يأكل قلبي، قَدِمت إليَّ إحداهن وأسرَّت إليَّ بأنه قد هاجر إلى دنيا أخرى.. فيها من الشقراوات والحسناوات اللاتي يفيض جمالهن عن المألوف ما لا يخطر لي على بال..
هو لن يعود!
يا إلهي! وبهذه السهولة يفعل ذلك ويتخلى عني وعن مسؤولياته؟ ما ذنبي؟ لماذا لم يكن واضحاً معي ويعتقني ثم يمضي في سبيله في وضح النهار ما دام لا يطيق العيش معي وعينه ترنو إلى جميلات لا يتصورهن عقلي؟ ما ذنب هذا الجنين الذي ينتفض داخل أحشائي؟ ماذا سأقول له عن والده؟
ويا ليت الأمر اقتصر على ذلك!
أصبحت علكة تلوكها الأفواه، وتتناولها الألسن وكأنني ارتكبت إثماً في جوف ليل! ينظرون إلى بطرف أعينهم، ويتمتمون بكلمات لا أفهمها، وعندما أقترب يصمتون، وتبقى أعينهم تسوطني بنظرات غريبة لا أفهمها.. ولكني لا أشعر أمامها بالراحة!
وما أسوأ عودة امرأة في مثل ظروفي إلى بيت أهلها.
خادمة طوال النهار لأهل البيت وزواره.. فلا يأتي ليل وبي نفحة من قوة. أما ابني فمحط للانتقاد واللوم والتقريع.. وإذا نادوه قالوا: ابن فلان.. وكأنه لا اسم له ينادونه به صغيرهم وكبيرهم.. وكأنهم يريدون تذكيري طوال الوقت بما حدث.. حرصاً منهم على ألا أنسى إن كنت سأنسى ذات يوم! ناهيك عن سيول الشتائم التي تناول منه ومن والده عند كل شاردة وواردة. عدا عن الكلام الجارح الذي لا تكف زوجات إخوتي عن إسماعي إياه: وهل نحن مكلفون بتولي تكاليف تربية ورعايته؟ وهل ينقصنا أشقياء آخرون في هذه العائلة الكبيرة؟
ماذا أفعل ولست من اختارت مصير حياتها مع هذا الزوج؟ كيف لي أن أُنقذ هذا الصغير من بؤس يتحلق حوله ولا يكاد يُعتقه؟ هل يؤاخذ بأنانية أبيه وهو البريء البسيط؟
سامحني يا صغيري.. أعدك ألا أكرر فعلتي معك مرة أخرى!!!