فلسطين أون لاين

السبعيني "أبو ماهر".. "بوابيري" من الجيل الأول في سوق الشجاعية

...
غزة/ نور الدين صالح:

جدران يكسوها اللون الأسود بفعل دخان "البوابير" المنبعث على مدار عقود طويلة لمحل صغير لا تتجاوز مساحته الثلاثة أمتار، يجلس المُسن يحيى المعصوابي، على كرسي خشبي مهترئ يُحدق بصره في تفاصيل "بابور" بعمر "أيام البلاد" محاولًا إعادة الحياة له وإشعار ناره من جديد.

يُمسك المعصوابي الذي اجتاز العقد السابع من عمره، بيده اليُمنى "مطرقة" يُغلفها لون الصدأ البني فبالكاد ترى تفاصيلها، وباليسرى "إبرة معكوفة" لنبش مجرى عين كازية البابور. يتمركز على طاولة خشبية تناثر عليها المُعدات وأدوات حديدية من عُمر صاحبها العم "أبو ماهر".

ورث "أبو ماهر" مهنة "تصليح البوابير ولحام أدوات الطهي" عن والده منذ "أيام الهجرة" أي عام 1948م، بعدما اشترى محلًّا صغيرًا في منطقة الشجاعية شرق مدينة غزة، كما يروي لصحيفة "فلسطين"، إذ كان يعمل به برفقة إخوانه، ولا يزال المحل ذاته في المكان نفسه حتى يومنا هذا.

أمام جدران المحل الثلاثة، تصطف رفوف خشبية اكتست أيضًا بهباب أسود، لا تتخذ الأرفف شكلًا مستقيمًا وتبدو متهالكة كـ"جسم مريض" يقاسي تفاصيل الحياة طيلة عقود خلت، يعتليها معدات و"بوابير" وأدوات طهي قديمة جدًا، بعضها متهالك، يرى فيها "أبو ماهر" شيئًا جميلًا يذكره ببساطة الحياة التي عاشها والده وأجداده مقارنة بتعقيداتها اليوم.

يحتفظ "أبو ماهر" صاحب البشرة البيضاء، بأدوات ومعدات يعود عُمرها لأيام الهجرة عام 48، وأخرى لأكثر من 40 عامًا، كانت شاهدة على جُملة من الأحداث والمآسي التي عاشها الشعب الفلسطيني حتى هذا اليوم.

يقول: "البابور بالنسبة لي تراث يُعبر عن أصالة الماضي الفلسطيني، يُذكّرني بحياة الفلسطيني قبل تشريده من أرضه، وبحرب 67، وبالحصار الذي تعيشه غزة"، مستدركًا: "لكن هذه الأيام أصبح الطلب على البوابير أقل من الماضي، بعد أن بات جل اعتماد الناس على الغاز".

ويلفت "أبو ماهر" إلى أن الطب على استخدام "البوابير" يكثر في أوقات الأزمات التي يمر بها قطاع غزة بين فينة وأخرى، فخلال السنوات الأولى للحصار وفي أثناء الحروب الإسرائيلية يأتي الناس بـ"البابور" لإصلاحه أو تجديده خشية انقطاع الغاز، وبعد أن تنتهي الحرب يقل الطلب عليه بشكل ملحوظ جدًّا، حتى إنه "كاد ينقرض".

ويتكوَّن بابور الكاز من جسم نحاسي يحتوي على خزان "لتعبئة الكاز" ورأس نحاسي لإشعال النار، وأرجل مصنوعة من حديد، وتبلغ كلفته نحو 70 شيقلًا وفي أوقات الأزمات وانقطاع الغاز والكهرباء تصل كلفته إلى 100 شيقل.

السويد أول من استخدمته

ويذكر "أبو ماهر" الأنواع القديمة للبوابير التي كانت تباع في الأسواق الشعبية الفلسطينية، مثل البابور المصري والسوري وأخرى أجنبية مثل البرتغالي والألماني والسويدي، وكان أفضلها الألماني والسويدي.

وموقد الكيروسين أو بابور الكاز هو إحدى وسائل الحصول على الطاقة الحرارية لأغراض التدفئة أو الطهي أو الإنارة عن طريق إحراق الكيروسين "الكاز"، ومن ثم إنتاج النار اللازمة للأغراض السابقة.

وتعد السويد أول دولة اخترعت وصنعت "بابور الكاز" في قرية تسمى "بريموس"؛ لذا سُمّى في البداية باسم القرية خرج منها البابور.

بينما يتحدث العم "أبو ماهر"، قاطعتنا سيدة عجوز تطلب منه إصلاح "إبريق نحاسي" تجاوز عمره الثلاثين سنة، كما تقول له، وتأبى التفريط بشيء من "ريحة أبوي"، وتصف الإبريق بأنه "قوي وأفضل من مصنوعات اليوم".

أوقد "أبو ماهر" النار في "عين بابور" وضع عليها أداة معدنية تشبه "المطرقة"، وعند سؤاله عنها، ردّ بكل ثقة: "هذه مكواة لحام يدوي، تستخدم في لحام أدوات الطهي النحاسية".

يضيف وهو أب لأسرة مكونة 11 فردًا (6 أولاد و5 بنات): "أصبحت الآن أعتمد على شغل لحام القصدير لأدوات الطهي وصبابات القهوة وسن السكاكين، نظرًا لشح الطلب على صيانة البوابير كما في السابق".

ويوضح أنه ليس حديث عهد بحرفة لحام الأدوات المنزلية المصنوعة من الألومنيوم، إذ أتقنها منذ سنوات طويلة، ولكنه بات يتصدر واجهة محله بفعل تراجع إقبال الناس على البوابير.

يُعد أبو ماهر أقدم "صنايعي" في سوق الشجاعية القديم، إذ تجمع بينها حكاية ارتباط متجذر بداخله، فيأتي كل يوم عند الساعة الثامنة صباحًا، ويغادر السوق عند الساعة الحادية عشرة ظهرًا، بغية تجديد نشاطه فهو راضٍ بقضاء الله وقدره، يرافقه الأمل مع إشراقة شمس كل صباح.