لم يكن إعلان وزير خارجية بريطانيا اللورد "آرثر جيمس بلفور” الذي يتكون من 67 كلمة هو ما أقام دولة الاحتلال (إسرائيل) على أرض فلسطين؛ فقد كان اليهود آنذاك يمثلون أقل من 5% من عدد السكان في عام 1917م، إن ما قدمته الدول الغربية -وعلى رأسها بريطانيا- من دعم لا محدود للمنظمة الصهيونية بإقامة مستوطنات يهودية لآلاف المهاجرين من كل أصقاع الأرض، ومنحهم حق حمل السلاح وتدريبهم عليه، وإطلاق العنان لهم لارتكاب كل الجرائم الإرهابية بحق الفلسطينيين؛ هو ما حول وعد بلفور إلى كيان و"دولة"، اعترفت بها معظم الدول المؤثرة في ذلك الوقت، ولذا إن وعد بلفور يمثل نموذجًا للسلوك الاستعماري والبلطجة الدولية التي لا تراعي قيم ومبادئ الشعوب، فتسرق أرض الشعب الفلسطيني وتمنحها لعصابات صهيونية مارست كل أنواع الإرهاب والابتزاز، فقد بقيت المنظمة الصهيونية "منظمة عنصرية" وتمارس "التمييز العنصري" بحق الفلسطينيين والعرب حتى عام 1991م، وذلك حسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 عام 1975م.
بلفور نفسه هو من افتتح الجامعة العبرية في فلسطين عام 1925م أي قبل إعلان إقامة الكيان الصهيوني (إسرائيل)، ومع استحضار تسارع الاعتراف الرسمي من الاتحاد السوفيتي ثم الولايات المتحدة الأمريكية؛ نرى بوضوح أن إقامة (إسرائيل) هو قرار يتجاوز طموحات عصابات صهيونية إرهابية، لم يكن يجمعها سوى سجلات الإرهاب الدولي!
صحيح أن رسالة آرثر بلفور إلى البارون ليونيل روتشيلد، أحد زعماء اليهود في بريطانيا، التي أبلغه فيها بأن حكومة بريطانيا العظمى تؤيد إقامة وطن لليهود في فلسطين؛ قد كانت قبل 104 سنوات (1917-2021م)، لكن شواهد تاريخية تعاقبت لتكشف حجم الحاجة للدول الكبرى بأن تكون دولة من جنسهم وعلى طريقتهم في هذه المنطقة؛ فإن فكرة وجود "الدولة الحاجزة" بين المشرق والمغرب العربيين هي فكرة إستراتيجية وقديمة، بحيث تتولى هذه الدولة مهمة منع توحدهما، أو التقاء الدولة العربية مرة أخرى لمواجهة التوجهات الغربية، ولا شك منع قيام أي كيان إسلامي يمكن أن يتطور ليعيد أمجاد الحكم الإسلامي أو الخلافة الإسلامية إلى عصور مجدها.
لقد وقف جو بايدن الرئيس الأمريكي الحالي في مجلس الشيوخ، بعد عودته من زيارة إلى (إسرائيل) في منتصف عام 1973، قائلًا: "لو لم توجد (إسرائيل) لتعيَّن على الولايات المتحدة الأمريكية إيجادها"، وهذا بعد 56 عامًا من وعد بلفور المشؤوم عام 1917م، وبعد ذلك بـ32 عامًا أخرى (2005م) قال الكاتب اليهودي الروسي الشهير ليونيد مليتشين: "لم تكن (إسرائيل) لتظهر إلى الوجود، لو لم يكن ستالين أراد قيامها"، وذلك في كتاب له بعنوان: "لماذا أنشأ ستالين (إسرائيل)؟".
لقد رعت الدول العظمى تفاصيل مشروع المنظمة الصهيونية بإقامة (إسرائيل) إلى درجة أن تكون (إسرائيل) جاهزة لتتقدم بطلب الحصول على عضوية في الأمم المتحدة بتاريخ 15 مايو 1948، أي بعد يوم واحد من وثيقة إعلان إقامتها، ولكن الطلب لم يطرح للتصويت، ورفض طلبها الثاني في 17 ديسمبر 1948م، لكنها بعد عام حصلت على قرار الاعتراف الدولي في 11 مايو 1949م.
ورغم جرائم الاحتلال المتتالية بحق الشعب الفلسطيني، والموثقة على شكل قرارات دولية تدين السلوك الإسرائيلي الإرهابي والعنصري، وتقارير دولية ترصد آلاف الحالات من انتهاك حقوق الإنسان، والاعتداءات على الممتلكات والمقدسات الإسلامية والمسيحية؛ إنه من أصل 193 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يعترف بـ(إسرائيل) 28 دولة (15 أعضاء في جامعة الدول العربية، و10 أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، إضافة إلى كوريا الشمالية وبوتان وكوبا)، أي أن 86% من دول العالم تعترف بهذا الكيان العنصري في مقابل 71% تعترف بفلسطين دولة (137 دولة حتى أغسطس 2018م).
ومع كل ذلك الدعم الدولي لهذا الكيان إن طبيعته العنصرية، وجبلته المتمردة على البشر والأعراف والقوانين الدولية تفضحانه دائمًا، وهذا ما عكسته "الوقاحة الإسرائيلية" إذ تجلت في سلوك مندوبه في الأمم المتحدة "جلعاد أردان" بتمزيق تقرير دولي من على منصة الأمم المتحدة، لأنه يدين جرائم (إسرائيل) ضد حقوق الإنسان في فلسطين خلال معركة سيف القدس، وهو الذي دأب على مخالفة السلوك الدبلوماسي بعد كل إدانة لعنصرية (إسرائيل) أو جرائمها، باستخدامه ألفاظًا نابية وغير لائقة ضد الدول التي تصوت لمصلحة الحقوق الفلسطينية.
وبعد 104 أعوام على وعد بلفور ومرور 73 عامًا على النكبة وإعلان إقامة (إسرائيل)؛ إن الفلسطيني اليوم هو أكثر وعيًا وإيمانًا بأن استمرار مقاومة هذا الكيان الاستيطاني الاحتلالي هي السبيل الوحيد لإنهائه وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وأن مراكمة الجهد النضالي والحفاظ على الثورة هي الخيار الأفضل للحصول على الحقوق الفلسطينية، فإن فلسطين كانت وستبقى أرضًا عربية ترويها أنهار الحرية التي تنبع من شرايين الثورة، فليست الوعود ولا الاتفاقيات ولا المفاوضات هي من تحمي الأرض وتحرر الوطن.