إن تجربة أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط لخمس سنوات، تأخذنا إلى فهم صريح لموقف المقاومة من صفقة التبادل، فهي اليوم وبعد سبع سنوات من احتفاظها بجنود الاحتلال الأسرى -الذين لا أحد يعرف عددهم أو طبيعتهم- قادرة على تحقيق مبدئها في الفصل بين الصفقة وأي ملف آخر، وقد استطاعت أن تجبر الاحتلال على التصريح بذلك على لسان رئيس الوزراء "نفتالي بينيت" بأنه لا ربط بين صفقة التبادل وأي إجراءات اقتصادية وإنسانية أو إعادة الإعمار، وهي ملتزمة بأن ثمن حرية الجنود الإسرائيليين الأسرى هو حرية الأسرى الفلسطينيين فقط. وأن إفصاح المقاومة عن طبيعة ما لديها من الأسرى الجنود لا بد أن يقابله ثمن، وهي مرحلة لا بد أن تسبق المفاوضات العميقة على عدد ونوعية الأسرى الفلسطينيين الذين ستشملهم الصفقة.
وإذا كان من يدير الملف هم أسرى تحرروا عبر صفقة وفاء الأحرار 2011، فهذا يعني أنهم يدركون واجبهم والتزامهم تجاه شركاء الزنزانة بتحريرهم مهما كلف ذلك من ثمن. وفي المقابل فإن الاحتلال لا يملك أوراق قوة أمام الوسطاء، لربط ملفي صفقة التبادل والإعمار معًا.
لقد مثلت صفقة وفاء الأحرار الأولى صفعة لـ (إسرائيل) لا يمكن أن تنساها إلى أن تزول، وسيكتب التاريخ عن مقاومة فلسطينية استطاعت أن تجبر "جيشاً لا يُهزم" أن يجثو على ركبتيه؛ ويقبل بإطلاق سراح 1027 أسيراً مقابل جندي واحد، كان جباناً في ميدان المعركة وبقي رمزاً لضعف جيشه بعد خروجه من الأسر. في المقابل فإن الأسرى الفلسطينيين الذين تحرروا هم اليوم قادة فصائل ورموز وطنية، خرجوا ليكملوا مشوارهم النضالي في مقاومة الاحتلال.
إن خارطة الطريق التي تحدث عنها مسؤول ملف الأسرى في حركة حماس وأحد محرري صفقة وفاء الأحرار "زاهر جبارين" تعكس مرونة الحركة في التعامل مع هذا الملف، وهي مرونة مكتسبة من خلال نجاحها السابق في صفقة وفاء الأحرار الأولى. ولعل قدرة المقاومة على تأمين ما لديها من أسرى إسرائيليين لسنوات رغم جولات القصف، والعمل الاستخباري الكبير لأجهزة المخابرات الإسرائيلية وحلفائها في المنطقة.
خارطة الطريق سُلِّمت للوسطاء في سبتمبر 2021 وهي تتضمن مساراً ناجحاً لإتمام صفقة وفاء تبادل عادلة للجميع، تتدرج في الثمن والثمن المقابل، وتسير وفق جدول زمي يتناسب مع الأعداد المفرج عنها وطبيعة أحكامهم، كما أنها تضمن للجميع تقديم إنجاز كبير لمجتمعه. فحرية نحو 5000 من الأسرى الفلسطينيين أهم بكثير من بقاء جنود الاحتلال أسرى لدى المقاومة.
إن المنطق التفاوضي يفرض على الجميع قبول فكرة أن لا أحد يقدّم "تنازلات مؤلمة" طواعية، وأن الرأي العام في (إسرائيل) سيرغم أي حكومة -مهما كانت متطرفة- بالرضوخ لشروط المقاومة عندما يتحرك وسيط قادر على إقناع الطرفين بتقديم ضمانات تؤكد جديته. وهذا ما حدث خلال صفقة وفاء الأحرار الأولى؛ عندما استطاع الوسيط الألماني الحصول على مقطع فيديو قصير يثبت أن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط بصحة جيدة، في مقابل إطلاق 19 أسيرة فلسطينية. وهذا ما يحدث في كل صفقات التبادل، التي لا تتم عادة دفعة واحدة، بل لا بد أن يتخللها أثمان جزئية تمهد لدفع الثمن الكامل للتبادل، الذي يكون عادة مؤلماً لأحد الطرفين.
إن حكومة الاحتلال وجيشها يدركان أن الثمن الذي تطلبه المقاومة هو ثمن كبير خاصة مع تضمينه أسرى نفق الحرية في سجن جلبوع، وقيادات وطنية كبيرة لها ثقل سياسي وأخرى لها ثقل عسكري، وأن ذلك يعني رضوخًا صعبًا جداً من قبل أي متخذ قرار إسرائيلي؛ ما يعني أنه قد يخسر منصبه وشعبيته في أي انتخابات كنيست قادمة. لكنهم جميعاً يدركون أيضاً أن دفع الثمن لا يأتي بإرادة وطواعية بل بعدم القدرة على تحمل تبعات تأخير اتخاذ ذلك القرار بدفع الثمن.