لمن لا يعرف إن سياسة التهويد للمعالم العربية والإسلامية قد بدأت في اليوم السادس والأخير في حرب حزيران (يونيو) 1967م، التي تُعرف بحرب الأيام الستة (5-10 يونيو)؛ ففي مساء السبت 10 يونيو قد بدأت عمليات الهدم لحارة المغاربة الملاصقة لحائط البراق، وبعد أربع ساعات فقط حولت إلى ساحة صلاة يهودية يدعونها "حائط المبكى".
وما يقوم به الاحتلال في المقبرة اليوسفية بمدينة القدس منذ ديسمبر 2020م هو امتداد لسياسة التهويد التي بدأها منذ إنشاء كيانه الصهيوني عام 1948م، فمع أنها مقبرة تضم رفات شهداء الجيشين العراقي والأردني لم يسلم أمواتها من الإرهاب والعدوان الإسرائيليين، وكل ذلك بهدف تحويل هذه المقبرة الإسلامية إلى حديقة توراتية يهودية، وهي السياسة نفسها التي تتبعها المنظمات اليهودية التي تنظم اقتحامات وصلوات تلمودية في ساحات المسجد الأقصى، وتحفر الأنفاق تحته لتصنع تاريخًا مزيفًا وتنسبه لليهود.
إن تزييف التاريخ والحقائق سياسة إسرائيلية مكشوفة، وصلت إلى حد زراعة مئات القبور الوهمية في أرض "الصلودحة" المحاذية للمسجد الأقصى، وحي "واد الربابة" في بلدة "سلوان" بمدينة القدس، والاحتلال ينشئ هذه القبور الوهمية على أراضٍ تتبع وقفية إسلامية تبلغ مساحتها مليون و680 ألف دونمًا، أي ما نسبته 6% من مساحة فلسطين.
ويعمد الاحتلال إلى تغليف سياساته التهويدية بقرارات وقوانين عنصرية، فقد صودرت معظم أراضي الوقف الإسلامي بحجة أنها "أملاك غائبين"، وبنيت عشرات المستوطنات والمرافق اليهودية بهدف تغيير المعالم العربية والإسلامية حتى ما قبل عام 1948م بدعم من الاحتلال البريطاني.
إنه ليس من نافلة القول أن مدينة القدس هي شقيقة مكة والمدينة، والمسجد الأقصى شقيق المسجد الحرام والمسجد النبوي، عبر التاريخ تعد مدينة القدس بوابة الحرب أو بوابة السلام للمنطقة، وهي معيار القوة والضعف للعالم العربي والإسلامي، فكلما كانت الأمة بصحة وعافية كانت القدس في كنفها وتحت سيطرتها، وإذا ما ضعفت الأمة واستكانت كانت القدس بيد عدوها، هكذا هي سنة الله في القدس عبر التاريخ، ولما كانت الأمة في أسوأ حالاتها من الضعف والركود والانهزام فقدت قدسها، فاحتل يهود الأرض شقها الغربي في سويعات معدودة عام 1948م، وأكملوا احتلالها عام 1967م.
فادعوا أن هيكلهم كان مبنيًّا على أرض المسجد الأقصى، وأن خطتهم هي إعادة بنائه على أنقاض المسجد الأقصى، وهذا ما ينقضه التاريخ وترده حقائق الجغرافية، فاليهود لم يكن وجودهم على أرض القدس إلا وجودًا عابرًا مؤقتًا، وجودًا طارئًا لم يترك أثرًا لحضارة أقاموها أو دولة شيدوها داخل المدينة المقدسة.
ولعل هدم قرية "العراقيب" بالنقب جنوبي فلسطين 184 مرة كان آخرها في مارس 2021م يعكس سياسة الإصرار التي ينتهجها الاحتلال، معولًا على إستراتيجية النفس الطويل التي تستخدمها الحركة الصهيونية منذ أكثر من 100 عام، وهو الحال الذي نجده في محاولات طرد الفلسطينيين من "الخان الأحمر" التي بدأت في سبتمبر 2018، وكذا هدم عشرات الوحدات السكنية في صور باهر عام 2019.
ولم يكن آخر مظاهر تلك السياسات محاولات تهجير سكان حي "الشيخ جراح" من بيوتهم، التي أدت إلى ردات فعل فلسطينية ودولية، شملت معركة سيف القدس في مايو 2021م، كلها أدت إلى وقفها وتعطيلها مؤقتًا، لكننا ندرك أن الاحتلال سيعاود تفعيلها بقرارات حكومية عنصرية وإجراءات ميدانية من المستوطنين.
لقد صاغت المنظمة الصهيونية فكرة إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، وهي تدرك أنها تعمل ضد الجغرافيا والتاريخ، ولذا جندت كل قوتها عبر الدول والمنظمات الدولية، من أجل ضمان صمتهم أو تجاهلهم إجراءات التهويد وطمس الحقائق، ولكن ذلك كله لا يمكن أن يفلح ما دام الفلسطيني يحمي أرضه وتاريخه بدمائه، وما دام العربي يحمل هم قضيته الأولى، فالقدس تبقى مدينة عربية إسلامية لم تكن ولن تكون يهودية. فالشعب الفلسطيني سيبقى مقاومًا للاحتلال إلى أن ينتصر، ويبقى لاجئًا في البلاد إلى أن يعود إلى أرضه ودولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.