أثارت زيارة وزير خارجية الكيان الإسرائيلي للبحرين الأسبوع الماضي مشاعر الغضب على صعد شتى: أولها المستوى الأخلاقي والقيمي لأمة العرب التي تكلست مشاعر الكثير من حكامها إزاء ما كان يعد قضايا مصيرية لها.
هذا التكلس أدى لتلاشي الإحساس بما هو صحيح وما هو خطأ في الميزان الأخلاقي المرتبط بالحرية والسيادة والمصير المشترك بين أبنائها.
ثانيها: على الصعيد الرسمي لهذه الدولة الخليجية التي تمادى حكامها في مشروع التطبيع، كيف يفكرون؟ وما حقيقة مواقفهم من الاحتلال؟ وما موقع فلسطين في مشروعهم السياسي؟ وما عمق المبادئ والقيم الأساسية للتعامل البشري؟ وهل ثمة وجود للقيم والمبادئ التي تحكم العمل العربي المشترك؟
ثالثها: على الصعيد المحلي وتفاعل مواطني تلك الدولة الخليجية مع المشروع الحكومي للتطبيع وما يتضمنه من اعتراف بكيان تأسس على أراضي الغير بالقوة، ونجمت عنه حالة من الشتات غير مسبوقة في العالم العربي.
رابعها: علاقة المنظومة السياسية في ذلك البلد بمواطنيها، وما إذا كانت الهرولة للتطبيع تؤسس لشرخ أكبر بين الشعب والحكومة.
خامسها: مواقف مؤسسات المجتمع المدني المستقلة عن الحكومة إزاء الاعتراف الرسمي بكيان الاحتلال من جهة، والتطبيع معه من جهة ثانية، وثالثا توقيع الاتفاقات السياسية والاقتصادية معه في ظروف تعاني البلاد فيها تداعي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للأغلبية الساحقة من الشعب.
لقد كان لافتا وقوف شعب البحرين ضد سياسات حكومته، فما أكثر الانتقادات والشجب لتلك الخطوة من علماء الدين والنشطاء السياسيين ومؤسسات المجتمع المدني غير المرتبطة مباشرة بالحكم. فقد أصدرت المبادرة الوطنية البحرانية لمناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني في 30 سبتمبر بيانا وقعته 25 مؤسسة أخرى، رفضت فيه مشروع التطبيع وحذرت من تحويل البحرين إلى مركز عمليات استخباراتية عبر هذه المراكز. وقالت إنها «تؤكد وتجدد رفضها كل أشكال التطبيع مع هذا الكيان وتعد فتح سفارة له في بلادنا الحبيبة تدنيسا لترابها الطاهر واختراقا كبيرا يمكن الاحتلال من العبث بالسلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي والتآمر على الأمن المجتمعي».
هذه الإشارات تستمد ضرورتها من حالة التفاعل والغليان داخل البحرين نفسها، وهو ما تعكسه أمور عديدة: أولها حالة الإصرار الحكومية ليس على السعي لتطبيع العلاقات مع (إسرائيل) فحسب، بل الهرولة غير الطبيعية في ذلك الاتجاه، ماذا تعني؟ وما دوافعها؟ وما علاقتها بالأوضاع السياسية الداخلية المأزومة داخل هذا البلد؟
ثانيها: تفاعل الشعب ومنظماته المدنية مع تلك السياسة الحكومية وتصديقاتها العملية سواء الاحتجاجات في الشوارع، أو الوقفات التضامنية، أو الشعارات المخطوطة على الجدران في الكثير من المناطق، أو على وسائل التواصل الاجتماعي، أو في المقابلات الإعلامية مع النشطاء والرموز، أو في المقالات التي تعج بها وسائل الإعلام الخارجة عن سيطرة الحكم.
ثالثها: التبعات المتوقع حدوثها نتيجة التباين الذي يتوسع باضطراد ويهدد باستمرار التوتر بين المواطنين والحكومة، خصوصا مع إصرار الكثيرين على وصف التطبيع بين حكومة البحرين والكيان الإسرائيلي بـ «الخيانة».
هذا الوصف سينعكس بشكل مؤكد على مستقبل الأزمة السياسية المزمنة في هذا البلد الخليجي. فثمة قطاعات معارضة ترى ضرورة مقاطعة من تتهمهم بتلك «الخيانة» وترى أن المعارضة ستفقد مصداقيتها إذا تحاورت معهم.
رابعها: أن البحرين لا تنفصل عن محيطها الإقليمي والعربي، وبالتالي ستتأثر أوضاعها بما يجري في المنطقة من جهة وبالعلاقات المستقبلية مع الفلسطينيين خصوصا مجموعات المقاومة من جهة أخرى. والواضح عدم اكتراث حكومة البحرين بالجانب الفلسطيني خصوصا المحسوب على المقاومة، الذي أصدر مواقف استنكار وشجب عديدة لسياسة التطبيع مع الاحتلال من جانب حكومة البحرين.
ماذا تعني هذه الحقائق؟ صحيح أن البحرين بلد صغير إذا قورن ببقية دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية الأخرى، ولكن تميز شعبها بتاريخه النضالي الطويل الذي بدأ في التاريخ المعاصر بالتصدي للاستعمار البريطاني واحتضان قضية فلسطين منذ الاستقبال الشعبي منقطع النظير للحاج أمين الحسيني عندما زار البحرين في عام 1936. ويحتفي مواطنو هذا البلد العربي المسلم ومؤسسات المجتمع المدني فيه هذا العام بمرور خمسين عاما على الانسحاب البريطاني من الخليج، مسلطين الضوء على التركة البريطانية خلال نصف القرن الماضي. وهذا جانب آخر من السجال السياسي والأيديولوجي المحلي والإقليمي. هذا التاريخ النضالي الوطني ميّز شعب البحرين عن بقية شعوب المنطقة، ووفر له تجربة واسعة عبر أجياله المتعاقبة، فكان شريكا لبقية الشعوب العربية في همومها ومِحَنها، وكانت قضية فلسطين في أعلى سلم أولوياته منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي بعد الحرب العالمية الثانية. يومها شارك البحرينيون إخوتهم الفلسطينيين في التصدي للعدوان، وتؤكد الصور هذا الحضور الذي تواصل طوال العقود السبعة اللاحقة. لذلك أصيب أهل البحرين بذهول شديد وصدمة كبيرة عندما هرعت حكومتهم العام الماضي لإعلان اتصالاتها مع قوات الاحتلال التي كانت قد بدأت منذ العام 1994. يومها زار أول وفد رسمي إسرائيلي البحرين في أواخر سبتمبر 1994. وشارك وزير البيئة الإسرائيلي يوسي ساريد في المُناقشات الإقليمية حول القضايا البيئية والتقى بوزير الخارجية آنذاك محمد بن مبارك آل خليفة. وتواصلت اللقاءات تباعا. وفي يناير 2007 التقى وزير الخارجية اللاحق، خالد بن أحمد آل خليفة نظيرته الإسرائيلية تسيبي ليفني، فصدر يومها انتقاد من مجلس الشورى الذي كان يضم أعضاء من جمعية الوفاق المعارضة. أما هذه المرة فقد أصبح ذلك «البرلمان» شريكا في مشروع التطبيع مع قوات الاحتلال الإسرائيلية.
ما دلالات توجه حكومة البحرين لـ (إسرائيل) بالرغم من الرفض الشعبي الواسع لتلك الخطوة؟ الواضح من خلال ما اتُّفق عليه بين حكومة البحرين والوفد الإسرائيلي الذي يرأسه وزير خارجية الاحتلال يائير لابيد أن هناك قرارا محوريا لدى الحكم بالاستمرار في الطريق المؤدي إلى تل أبيب كاملا. ولذلك اتفق الجانبان على اتفاقية لتبادل البيانات بينهما، بعد أن فشلت محاولات سابقة للتفاوض مع شركة «أمازون» للقيام بإدارة المعلومات الرسمية. وكان لافتا للنظر دخول محمد علي القائد، الرئيس التنفيذي لهيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية على الخط خلال زيارة الإسرائيليين، ومن ثم التوقيع على الاتفاقية التي تضع بأيدي الإسرائيليين المعلومات الشخصية للمواطنين كافة. وبيّن القائد أن منح (إسرائيل) حق السيادة على معلومات المشتركين التابعين لها في مراكز الحوسبة السحابية القائمة بالبحرين يأتي وفقاً للقانون رقم (56) لسنة 2018 بشأن تزويد خدمات الحوسبة السحابية لأطراف أجنبية.
كما جاء لقاء المشير خليفة بن أحمد آل خليفة يوم الخميس الماضي مع فريق عمل المعهد اليهودي للأمن القومي بالولايات المتحدة الأمريكية ضمن التعاون الاستخباراتي والأمني الذي اتُّفِق بشأنه ليؤكد توجه الحكم لتسليم الإسرائيليين ملفات البحرينيين كاملة. إنها تطورات خطرة لم تشهدها البلاد من قبل، فكيف تُسلم معلومات الدولة لدولة أخرى ما تزال تعد في الوجدان الشعبي العربي «عدوا» بسبب إصرارها على احتلال فلسطين؟
الأمر المؤكد أن ما تقوم به حكومة البحرين ضمن مشروع التطبيع مع الكيان الإسرائيلي مغامرة غير مضمونة النتائج.