بعد 75 عامًا من احتلال فلسطين وما بدا من عجز الأمة عن حمايتها من العدوان الصهيوني المدعوم من الغرب، أصبح واضحًا أن القضية لم تُحسم لصالح الاحتلال، وأن الأمة العاجزة لم تهزم، وأن المشروع الغربي فشل في تركيعها أو إجبارها على الاستسلام.
وكل ما يمكن قوله: إن الجيوش العربية هُزمت في تلك الحرب، والهزيمة لا تعني الاستسلام، خصوصًا في حرب طويلة الأمد تتخللها معارك يربح بعضها هذا الطرف ويخسر ذاك.
فها هو شعب فلسطين يتألق في ميادين الجهاد والنضال ويصر على الصمود والتحدي، برغم قلة العدد وخذلان الناصر. ما يزال الغربيون وحكام العرب يتحدثون عن «مشاريع السلام» التي لم يُكتب لأي منها النجاح، لأنها ببساطة تُفرض على الأمة بقوة السلاح ومنطق الغلبة، بعيدا عن منطق العدل والحق.
فأين هو مشروع روجرز؟ وأين هي اتفاقات أوسلو أو كامب ديفيد؟ قوى الاحتلال وداعموها ما يزالون يتحدثون عن فرض الأمر الواقع بالوسائل كافة، بما فيها سياسات الابتزاز والتهديد والترغيب، على أمل جذب بعض الحكام إلى جانب مشروع التسوية الجائر. وقد استخدمت أمريكا إمكانياتها كافة لفرض مشاريعها للتسويات غير العادلة، ولكن ما النتيجة؟
ربما رحل الجيل الذي كان شاهدا على «النكبة» بغصته وغضبه وإحباطه، ولكن ماذا عن الأجيال اللاحقة التي ولدتها أرحام الأمهات اللاتي شهدن النكبة وكن شاهدات على ما جرى آنذاك؟ يومها قُسمت فلسطين ظلما وشّرّد شعبها عن أرضه، وفُرض على الأمة حكام غير قادرين على الصمود، بل كانوا مأخوذين بقوة العدو الوهمية. اليوم أصبح واضحا أن تلك القوة، على تعدد أشكالها وإمكاناتها، فشلت في حسم الصراع لصالح الاحتلال، وبقيت فلسطين شامخة بأهلها وداعميها من شرفاء العالم وأحراره.
هذه الأرض الطيبة التي باركها الله بالمسجد الأقصى ومقامات الأنبياء الذين بلّغوا رسالات السماء إلى أهل الأرض، لديها قصة بقيت ترويها للأجيال، وهي قصة متجددة لها فصول لا تنقطع ومسيرة تتألق بالحرية في كل عصر، وتتأثر بها الأجيال طوال ثلاثة أرباع القرن. وبذلك أثبتت فلسطين نفسها أنها مصدر إشعاع وإلهام لعشاق الحرية، ليس من العرب والمسلمين فحسب، بل من شعوب العالم الرافضة للاستعباد والاحتلال والاستعمار.
ويمكن هنا طرح أربع ظواهر عمت العالم خلال الحقبة التي أعقبت «النكبة»، كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لما حدث في فلسطين في العام 1948، وجميعها يمكن إضفاء صفات التقدم والتحرر والوعي عليها: الثورة على العبودية وتحول المزاج العالمي ضد العنصرية، والنضالات ضد الاستعمار، وتعمق النزعة التحررية لدى الشعوب. وربما لم تكن هذه الظواهر لتكون لولا ما حدث في فلسطين في غضون ثلاث سنوات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
كان من أولى نتائج الحرب العالمية الثانية المدمّرة، تصاعد النفوذ الأمريكي. في تلك الظروف حدثت النكبة واحتلت فلسطين وفرض نظام الاحتلال على المنطقة والعالم. واعتقدت القوى الاستعمارية أنها حققت انتصارا تاريخيا ساحقا على التوجهات الساسية والإيديولوجية كافة على سطح الكرة الأرضية. ولكن سرعان ما تبدد ذلك الحلم؛ فقد نجم عن الزخم النضالي الذي مارسه أهل فلسطين ضد الاحتلال انطلاق الظواهر المذكورة بعد أن اتضحت سوءات "الدول المنتصرة".
كانت الظاهرة الأولى يقظة الشعوب المستضعفة واستعادة ثقتها بالنفس وبداية التحرر من الاستعمار، وكان ذلك ضربة قاصمة للقوى الاستعمارية التي دعمت قيام الاحتلال ثم اعترفت بكيانه السياسي. وشهدت حقبة الخمسينيات والستينيات تصاعد حركات التحرر العالمية المناهضة للاستعمار في كافة أنحاء العالم كافة، خصوصا أفريقيا وأمريكا اللاتينية. وكانت حرب فيتنام أحد تجليات الوعي ضد الاستعمار الفرنسي والأمريكي.
أما الظاهرة الثانية، فكانت تصاعد النضال ضد العنصرية. بدأ ذلك بتمرد السود في أمريكا نفسها، ولمعت في ذلك النضال أسماء مثل مارتن لوثر كينغ وأليجا محمد ومحمد علي كلاي وسواهم.
وبغض النظر عن مواقف بعض تلك الشخصيات، فقد كان لزخم القضية الفلسطينية أثر في تحريك الوعي الإنساني ضد السياسات العنصرية في الولايات المتحدة، فالذين يمارسون التمييز العنصري في أمريكا هم داعمو الاحتلال، ماضيا وحاضرا، فكانت فلسطين وقضيتها محرّكا لمشاعر الكرامة الإنسانية لدى قطاعات واسعة من المضطهدين في البلاد الأمريكية، وتزامن مع ذلك بداية نهوض حركة «الوعي الأسود» ضد النظام العنصري في جنوب أفريقيا، والمقاومة الوطنية في روديسيا ضد حكم الأقلية البيضاء. ولرموز تلك الحركة مواقفهم المشرفة إزاء فلسطين.
فمانديلا يقول: « نعلم جيدا أن حريتنا منقوصة من دون الحرية للفلسطينيين». ويقول الراحل ديزموند توتو: «الغرب يشعر بالذنب تجاه (إسرائيل) بسبب المحرقة (المزعومة).. لكن من الذي يدفع الغرامة؟ إنهم العرب، الفلسطينيون». وفي عام 2014، قالت صحيفة «الغارديان»؛ إن ديزموند توتو، شارك في قيادة الاحتجاج ضد شركة الأمن البريطانية جي 4 إس؛ للدور الذي تقوم به في إدارة السجون ومراكز الاعتقال في الضفة الغربية والأراضي المحتلة سنة 1948. وكانت علاقات النظامين العنصريين في (تل أبيب) وبريتوريا متينة جدا، فكانت قضية فلسطين ونضال شعبها دافعا للمناضلين لمقارعة نظام الفصل العنصري وإسقاطه.
أما الظاهرة الثالثة التي لا يمكن فصل نشأتها عن قضية فلسطين، فتتمثل بالثورة ضد العبودية، وهو النظام الذي كان للدول الغربية دور محوري في إقامته. وكان ذلك النظام من أسوأ ما شهدته البشرية من انتهاك لإنسانية البشر، إذ تضمن العناوين كافة التي تستبطن الشر: الإقطاع، الاستعباد، الاتجار بالبشر، التمييز العنصري، الاضطهاد العرقي، وكلها قيم مارستها الدول المذكورة التي كان لها دور في اضطهاد الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه وتشريده من وطنه. وكانت الثورة ضد العبودية نقطة فارقة في التاريخ البشري الحديث. لقد ساهمت مفاهيم النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي وداعميه في تأصيل قيم الحرية والإنسانية في نفوس الكثيرين، فأصبحت ظاهرة العبودية ممقوتة ومرفوضة وأدت لحدوث تمرد ضدها على نطاق واسع.
هذا الاستعباد كان له مدلولات أخرى في العالم العربي، أهم ملامحها الاستبداد والديكتاتورية، فكانت فلسطين وقضيتها مصدر جذب للعناصر الراغبة في الثورة على واقعها المهين. وبهذا تتجلى الظاهرة الرابعة لما تمخضت عنه قضية فلسطين؛ فقد أدركت الشعوب العربية تواطؤ بعض الأنظمة العربية مع القوى التي أسست الاحتلال ودعمته، وأعادت صياغة سياساتها الخارجية وعلاقاتها الدولية لتنسجم مع استضعاف الشعوب.
فكانت الثورة الفلسطينية شوكة في خاصرة تلك الأنظمة، ورأى فيها الجيل المعاصر من المناضلين منطلقا للنضال الوطني الهادف لتحرير البلدان من الاستبداد، الذي خلق ظروف الأزمة وساهم في إضعاف الأمة وعجزها عن التصدي للاحتلال، فبقي أهل فلسطين وحدهم في الميدان. هذا الوعي الجماهيري تواصل طوال العقود السبعة الماضية، ليتحول إلى حراكات وثورات لم تتوقف، حتى تجسدت عمليا في ثورات الربيع العربي التي قمعتها الجهات الداعمة للاحتلال، أو التي طبّعت معه أو تخلت عن مسؤولياتها الأخلاقية والتاريخية تجاه أهل فلسطين.