أثار مشهد مواطن من البحرين وهو يصلي أمام حائط البراق بمدينة القدس، محاطا بالمتطرفين اليهود، تقززا لدى الكثيرين، خصوصا بعد أن نشر صورة أخرى وهو يتوسطهم في حالة بهجة أدخلت الحزن في نفوس الفلسطينيين.
وربما كان وقع الصورة على النفوس أقل استفزازا لو التقطت في أحد الأسواق أو المنتزهات، ولكن إقحام الصلاة في قضية التطبيع يضفي بعدا آخر على الأمر. فما جرى ليس «حوارا دينيا» بين المسلمين واليهود، بل كان موقفا سياسيا مؤلما يمثل طعنة للضمير العربي والإسلامي والدولي خصوصا مع استمرار إراقة دماء الفلسطينيين وتصاعد سياسة تغيير ملامح مدينة القدس وهويتها.
ويوما بعد آخر، تتواصل الصلافة الصهيونية بإصدار قرارات ليس لتكريس احتلال مدينة القدس فحسب بل لاستهداف المسجد الأقصى تمهيدا لإزالته مستقبلا. ولا شك أن مواقف المطبّعين تشجعهم على ذلك. ففي الأسبوع الماضي أصدرت محكمة إسرائيلية قرارا يسمح للمحتلين بأداء صلوات صامتة بالمسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وما أكثر القرارات التي تعمّق الاحتلال في الوقت الذي تقابل فيه تلك القرارات بتواطؤ مكشوف وهرولة غير مسبوقة وغير مبرّرة. فكيف يكون شعور الفلسطيني المحاصَر الذي يُستهدف يوميا في أرضه وحياته وحقوقه؟
فلا يكاد يمر يوم بدون سقوط شهيد واعتقال آخرين. وفي غياب القيادة الفلسطينية القادرة على التصدي لسياسات التطبيع، بقي علماء الدين وحدهم يمارسون التوجيه ويقودون التصدي ويحولون دون استئصال القضية. فكان رد المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، الشيخ محمد حسين على القرار المذكور: «إن الاقتراب إلى المسجد الأقصى ممكن أن يكون شرارة تحرق العالم بأسره». وتابع المفتي: «المسجد الأقصى المبارك لا ولاية عليه من قريب أو بعيد من أي شخص كائنا من كان في موقعه السياسي أو في موقعه القانوني أو في موقعه الاحتلالي… لا ولاية لأية محكمة مهما كانت درجة هذه المحكمة».
لم تنفصل قضية فلسطين يوما عن بعدها الديني، برغم طغيان البعد السياسي عليها. ويُعتبر العنصر الديني جوهريا في استمرار النضال من أجل تحريرها من الاحتلال. ويجدر التأكيد على أن العنصر الديني هنا منسجم مع الموقف السياسي الدولي الذي ما يزال يؤكد أن المدينة «محتلة» ويرفض الهيمنة الإسرائيلية عليها. ويمتد هذا البعد بجذوره إلى ما قبل التقسيم والإعلان عن قيام دولة الكيان الغاصب. بل أن زيارة وفد حكومة البحرين ومن ضمنهم الشخص المذكور كانت ضمن مشروع التطبيع الذي يتناقض تماما مع العمق التاريخي لموقف شعب البحرين وعلمائها إزاء قضية فلسطين. هذا العمق يتصل بانطلاق الوعي القومي في حقبة العشرينيات عندما كان «المدرّس» السوري حافظ وهبة يمارس مهنته في البحرين قبل أن يصدر البريطانيون قرارا بإبعاده بسبب دوره في ترويج الانتماء القومي في المراحل الاولى لصعود الظاهرة القومية.
هذا الشخص أصبح لاحقا سفيرا للسعودية لدى بريطانيا. كما يرتبط ذلك العمق بزيارة الحاج أمين الحسيني البحرين في عام 1936 عندما رفعه اهل البحرين على الأكتاف وأقيمت المجالس احتفاء بوجوده. وتعمّق هذا البعد بمواقف علماء الدين لاحقا إزاء قضية فلسطين. ويسجل التاريخ أن القضية كانت ملازمة للأيديولوجيا الدينية والسياسية لدى الحركات والأحزاب الإسلامية خصوصا جماعة الإخوان المسلمين منذ أن تأسست على يدي الشهيد حسن البنا في عام 1928. هذه الأيديولوجيا انتشرت في كل بقاع العالم العربي، فساهمت في جعل القضية مركزية في الوجدان العربي والضمير الإسلامي طوال العقود السبعة اللاحقة.
انطلاقا من الحقائق المذكورة يمكن إعادة فتح ملف دور علماء الدين المسلمين (والمسيحيين أيضا) إزاء قضية فلسطين. فكانت مواقف شيوخ الأزهر داعمة للقضية منذ بداياتها، ومانعا من نجاح مشروع التطبيع بعد أن وقع الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، اتفاقات كامب ديفيد في عام 1979. يقول حسن البنا: «ليست قضية فلسطين قضية قطر شرقي، ولا قضية الأمة العربية وحدها، ولكن قضية الإسلام وأهل الإسلام جميعًا». ومنذ بداية القضية كانت مواقف علماء الدين واضحة بدون لبس او غموض. ففي عام 1931 عقد المؤتمر الإسلامي الموسع في القدس بدعوة من مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، الذي شارك فيه علماء كثيرون. فألقى العالم العراقي الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء خطابا حماسيا ثم انتخب عضوا في اللجنة التنفيذية للمؤتمر وقام بإمامة الصلاة في المسجد الأقصى. وفي العام 1938 أصدر فتوى بالجهاد لتحرير فلسطين.
وقد كان للأزهر دوره في دعم قضية فلسطين ماضيا وحاضرا. ففي الشهر الماضي قال الشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر خلال استقباله محمود الهباش قاضي قضاة فلسطين ومستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الدينية والعلاقات الإسلامية: «فلسطين هي قضية المسلمين الأولى». هذا الموقف إنما هو امتداد لسياسة الأزهر الثابت إزاء القضية منذ انتفاضة البراق في عام 1929. يومها حذر الشيخ محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر آنذاك، السلطات البريطانية من التعدي على المقدسات الإسلامية أو المسلمين في القدس. وبعد النكبة في 1948 أصدر شيخ الأزهر محمد مأمون الشناوي فتواه الشهيرة بوجوب التصدي للمحتلين، وحماية أرض العروبة والإسلام من الاعتداءات الصهيونية الغاشمة، كما أفتى الشيخ حسنين مخلوف، مفتي مصر وقتها، بوجوب الدفاع عن فلسطين والأراضي المقدسة بالنفس والمال، بعدِّه واجبًا شرعيًّا على القادرين، وأن من نكص عن القيام بهذا الواجب مع الاستطاعة كان آثمًا. ورفض الشيخ عبد الحليم محمود، أن يكون ضمن الوفد المرافق للسادات، في أثناء زيارته لمدينة القدس عام 1978 التي تمخضت عنها عقد اتفاقية «كامب ديفيد» بين مصر و(إسرائيل) بوساطة أمريكية. ورفض الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، لقاء الرئيس الإسرائيلي عيزرا وايزمان خلال زيارته للقاهرة، رفضاً قاطعاً، وأتبع ذلك بإصدار عدد من البيانات في الكثير من المحافل، للتأكيد أن القدس ستظل عربية إسلامية إلى قيام الساعة، وأصدر فتواه برفض زيارة المسلمين للقدس بعدما أفتى بعض العلماء بجواز ذلك بعد عقد اتفاقية أوسلو عام 1993م بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية.
كما كان للمسيحيين موقفهم الداعم لقضية فلسطين. فقد دعا البابا «شنودة الثالث» بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في مصر هو الآخر المسيحيين لعدم زيارة القدس. وكان الفاتيكان واعيا لمشروع الاحتلال منذ بداياته. فبعد المؤتمر الصهيوني في بازل عام 1897 أصدر الفاتيكان بيانا قال فيه: «إن بناء القدس كي تصبح عاصمة لـ «إسرائيل» يتناقض مع نبوءات المسيح نفسه». وفي 1904 قال البابا بيوس العاشر لتيودر هرتزل: «نحن لا نستطيع أن نساند هذه الحركة (الصهيونية) وأنا بصفتي رئيساً للكنيسة لا أستطيع أن أجيبك خلاف ذلك، اليهود لم يعترفوا بسيدنا يسوع المسيح، لذلك لا يمكننا نحن الاعتراف بوضع اليهود أياديهم على القدس». ورفض الفاتيكان وعد بلفور الذي صدر بشأن الدولة اليهودية في عام 1917. وما تزال مواقف الفاتيكان بشكل عام داعمة للقضية الفلسطينية برغم الضغوط التي تُمارَس عليه من قبل داعمي (إسرائيل) في الغرب.
إذن هناك تناغم ديني حول قضية فلسطين، يرفض الاحتلال دون تحفظ، الأمر الذي تسعى (إسرائيل) لإلغائه أو التشويش عليه.