يُسابق الفتى هشام مقبل ابن الأربعة عشر ربيعاً زملاءه، ملوحاً بيده اليُمنى رغبة منه بالإجابة عن سؤال طرحته المُعلمة عن "الجهاز الدوري في جسم الإنسان"، وبعدما أخذ الإذن أجاب بلغة الإشارة، فالمعلمة عبّرت عن سعادتها بإجابته أيضاً بلغة الإشارة، فهما يعيشان داخل "بيئة صامتة".
رفعت المُعلمة حكمة غزال، يديها للطلبة وحركتهما يميناً ويساراً -ضمن إشارات مفهومة بينهم- فكانت تلك الإيحاءات إيذاناً لهم بالتصفيق لزميلهم "مقبل" تحفيزاً له على إجابته.
مرّة أخرى طرحت مُعلمة مادة العلوم العامة للصف التاسع "غزال" سؤالًا آخر: "ما وظيفة القلب في جسم الإنسان؟"، تسَابق الطلبة البالغ عددهم خمسة في أحد فصول مدرسة الصم التابعة لجمعية أطفالنا للصم، برفع أيديهم "بلا أصوات" فهم ومُعلمتهم من ذوي الإعاقة السمعية، فلا لغة تربطهم إلا الإشارة.
تُكمل المُعلمة "غزال" شرح الدرس المُعنون بـ "الجهاز الدوري"، وملامح السعادة لا تُفارق مُحياها، أما الطلبة في حالة انتباه وتركيز شديدين، في مشهد يوحي بمدى اهتمامهم بالتحصيل العلمي.
غادرنا ذلك الفصل والطلبة يلوحون بإشارات الإعجاب والثناء، ففي الفصل الآخر الملاصق له يجلس طلبة آخرون يخطون بصمت على ورقة ناصعة البياض ما يجول في خواطرهم وتميل له قلوبهم.
الطفل حمزة الترك ابن الصف الخامس، ينهمك برسم ملامح "سمكة كبيرة" دون الالتفات هنا أو هناك، ثم أخذ يلونها بـ "الأحمر والأخضر"، وعند سؤالنا إياه عن سبب توجهه لهذه الرسمة، أجاب بلغته الخاصة وترجمتها مُعلمته: "أنا أُحب البحر كثيراً"، أما عن اختيار الألوان "فهو يُحب الحياة الزاهية لأنها تبعث لديه الأمل".
في حين خطّت مجموعة أخرى من الطلبة رسمة متكاملة كان عنوانها "البيت الآمن" بمزيج من الألوان الزاهية، تعبيراً عن رغبتهم بالعيش حياة آمنة بين أحضان والديهم، بعيداً عن الإزعاج والضوضاء والحروب.
"موطني موطني، الجمال والجلال والسناء والبهاء..."، كلمات قصيدة موطني للشاعر إبراهيم طوقان، كانت تعلو بصوت المُنشد "مراد السويطي" داخل أروقة أحد الفصول، وعلى أنغامها كانت مجموعة من الطلبة "الصُم" يرددونها بلغة الإشارة، فتارة يُشيرون إلى قلوبهم وأخرى يرفعون أيديهم إلى السماء.
كانوا خمسة طلبة كأنهم "شخص واحد"، من شدة التجانس بينهم، وهم يلوحون بحركات متتالية تارة يميناً ويساراً وأخرى أعلى باتجاه القلب والعين وحركات أخرى كثيرة.
لغة الإشارة
المختصة بلغة الإشارة ومسؤولة شؤون الموظفين في جمعية "أطفالنا للصم" ماندي سرداح، قالت إن لغة الإشارة هي الأساس بالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة السمعية لتسيير شؤون حياتهم، مشيرةً إلى أن اليدين هما أهم عنصر في الجسم لديهم.
وذكرت سرداح خلال حديثها مع صحيفة "فلسطين"، أن لغة الإشارة لها لهجات مختلفة من دولة لأخرى، كما اللغات الأساسية الأخرى، مضيفة: "هم يعيشون في عالم صمت وهذا مؤذٍ إلى حد ما، لكنّ كثيرًا منهم حولوا المحنة إلى منحة، وأبدعوا في مجالات الحياة".
وأوضحت أن ذوي الإعاقة السمعية تنتابهم حالة من الخوف والتوتر خاصة في أثناء الحروب، فهم يخشون تعرضهم لبتر "اليدين"، فهما أغلى عضو في الجسم، "لذلك هذا الهاجس الذي يراودهم خلال الأزمات".
وبيّنت أن المعيق الثاني لديهم خاصة في وقت الحروب هو عدم وجودة متابعة للأحداث بلغة الإشارة ما يُشعرهم بالبُعد عن الواقع والأحداث الجارية حولهم، ما ينعكس سلبياً على حالتهم النفسية.
ويخشى الأشخاص "الصُم"، وفق سرداح، من عمليات التحذير والإخلاء التي يمارسها الاحتلال الصهيوني خلال الحروب، "إذ ينتابهم شعور نسيانهم من والديهم أو أفراد العائلة في تلك اللحظات، كونهم لا يجيدون الحديث ولا يشعرون بما يدور حولهم"، حسب حديثها.
وتؤكد سرداح أن "ذوي الإعاقة السمعية" يعانون صعوبات في التواصل مع المجتمع الخارجي، تتمثل بعدم تسليط الضوء على لغة الإشارة، وعدم مواكبة الأماكن العامة لخصوصية حياتهم، لافتةً إلى أنهم يضطرون لاصطحاب مترجم إشارة لتوصيل رسالتهم للمجتمع.
ولفتت إلى أن الجمعية وبالتعاون مع المؤسسات الأخرى والجهات الحكومية، أخذت على عاتقها نشر لغة الإشارة في جميع الأماكن، وحرصت على ضرورة إعطاء دورات متخصصة فيها، داعية وزارة التعليم إلى إقرار "الإشارة" ضمن المواد التي تُدرس للطلبة لتعريفهم بكيفية التعامل مع هذه الفئة.
وتأسست "أطفالنا للصم" عام 1992، وما زالت مستمرة في عملها حتى الآن، حيث تضم بين جنباتها أقساما عدة، هي: المدرسة، والروضة، والإنتاج الحرفي، إضافة إلى بعض البرامج والأنشطة الأخرى.
ويبلغ عدد المُصابين بالإعاقة السمعية المسجلين لدى وزارة التنمية الاجتماعية في قطاع غزة أكثر من 65 ألف حالة، في حين تصل نسبة المواليد المصابين بفقد السمع 7 من الألف، وفق ما ذكر رئيس قسم السمعيات في "أطفالنا للصم" د. رمضان حسين.
وبيّن حسين لـ "فلسطين" أن قرابة 35 شخصاً أصيبوا بفقد السمع بعد معركة "سيف القدس" الأخيرة في العاشر من مايو الماضي، في حين أن حوالي 245 أصيبوا بعد عدوان 2014.
وأوضح أن الذين يصابون بفقد السمع هم الذين يتعرضون للانفجارات الناجمة عن القصف الإسرائيلي بشكل مباشر، والتي ينتج عنها "تهتك في طبلة الأذن"، وغيرها من المشكلات الأخرى.
وأشار إلى أن استمرار إغلاق المعابر ينعكس سلبياً على إدخال المستلزمات الخاصة بالسماعات اللازمة لذوي الإعاقة السمعية، إضافة إلى منع إدخال الأجهزة الخاصة بالفحص.
ولفت إلى أن تكلفة السماعات غالية الثمن وبحاجة إلى تغيير كل خمس سنوات، وهذا الأمر مُرهق للعائلات ويزيد الأعباء الملقاة على عاتقها.
ويوافق يوم الثالث والعشرين من سبتمبر/ أيلول من كل عام، اليوم العالمي للغات الإشارة، الذي تزامن مع تاريخ تأسيس الاتحاد العالمي للصم عام 1951.