"رايحين نجيب رجلي!؟" بقلبٍ يغمره الفرح يسأل الطفل جهاد يوسف الشاعر ابن الأعوام الثلاثة أمه بشكل متكرر كلما جهزته للخروج من المنزل كما فعلت اليوم، بينما تقف الأم عاجزة على إجابة طفلها على سؤالٍ يملأ قلبها حزنًا وألمًا، وتصبح فيه الحروف أثقل من البوح، مرجئة الإجابة للأيام والحياة التي ستعلم الطفل أن الأجزاء المفقودة لا تعود.
بساحة مستشفى ناصر الطبي محافظة خان يونس، يجلس الطفل على كرسي متحرك، يرتدي ملابس جديدة ويحمل زجاجة مياه وبعض الحاجيات، مبتور الساقين جراء قصف إسرائيلي تعرضت له خيام النازحين في 10 سبتمبر/ أيلول 2024 بمنطقة المواصي غرب محافظة خان يونس.
يوم الحادثة الدموية استيقظت أمه مذعورة على صراخ زوجها بألم شديد "يدي.. يدي"، اعتقدت أن اسطوانة غاز انفجرت قبل أن تنظر حولها لترى سحابة دخان تغطي كل شيء وتمنعها من الرؤية، تحسست مكان أطفالها وحفرت بالتراب الذي ملأ جهاد وشقيقه الأصغر أحمد (عام) وأخرجتهما وحملتهما بين ذراعيها وخرجت بهما من المكان، بينما استشهد اثنان من أخوتها، وزوجة شقيقها الحامل.
هم من الصغر
بينما تمسك الأم كرسي طفلها المتحرك في فعالية لذوي الإعاقة بمناسبة يوم المعاق العالمي بساحة مستشفى ناصر، ترحل لتفاصيل حدث يرفض التزحزح عن ذاكرتها في حديثها لـ "فلسطين أون لاين": "لم أتوقع أن يتم قصف المنطقة لأن الاحتلال صنف المواصي على أنها منطقة إنسانية، وعندما ركبت بسيارة الإسعاف تفاجأت بإصابة جهاد، وبعد خمس ساعات صدمت ببتر قدميه إحداها بترت بشكل كامل بدون مفصل والأخرى بمفصل، وبترت قدم زوجي".
مثل إصابة "جهاد" صدمة العمر لأمه، حيث كان كثير الحركة والركض، يحب تلبية كل شيء لها واحضار الأغراض من داخل الخيمة، أما اليوم فهو يلازم حضنها لا يتعامل مع أي شخص غيرها يحمل هما منذ طفولتها التي لم يمارس خلالها حقوقه باللعب والعيش بأمان وحرية.
ورغم ذلك رفض الاحتلال مرافقة أمه له بتحويلة علاجية للخارج، مع السماح لعمته، وهو أمر تراه صعبًا كون الإصابة زادت تعلق الطفل بها، لتكتوي من جديد بنار الحرمان من استكمال العلاج.
يرافق القهر نبرتها الغاضبة "لا نريد تركيب طرف صناعي وتدمير نفسية طفلي، لأنني لو غبت عنه خمس دقائق يستمر بالصراخ والسؤال: "وين ماما؟" حتى لو كان أبوه موجودا بالمكان، وطوال الليل يظل نائما بحضني".
غياب التأهيل النفسي
ويعاني ذوو الإعاقة من غياب الأدوات المساعدة كالعكاكيز الطبية، والأطراف الصناعية التي يمنع الاحتلال إدخالها، وكذلك غياب عملية الدعم النفسي مما يفاقم حالتهم ويمنع اندماجهم بالمجتمع، وهو تؤكده والدة جهاد، التي تقر بأنها لا تستطيع التعامل بشكل جيد مع حالة طفلها النفسية، لغياب الإرشادات اللازمة لتوجيهها بكيفية التعامل مع وضعه، وكذلك دمجه بالمجتمع وإخراجه من قوقعة الإعاقة.
وبحسب إفادة دائرة نظم المعلومات بوزارة الصحة " بلغت حالات البتر خلال الحرب حسب تقديرات وزارة الصحة 4500 حالة بتر، لكن ما تم تسجيله داخل الوزارة هي 1302 حالة بتر، منهم 1041 حالة للذكور و261 للإناث، تمثل نسبة بتر الأطفال 15%، وتمثل نسبة حالات البتر في الأطراف السفلية 83% من إجمالي تلك الحالات.
وإضافة لما سبق يوجد 14500 إصابة شديدة بحاجة لتأهيل لمدة زمنية طويلة، وسط شح المستلزمات والأدوية وتدمير نحو 34 مستشفى حكومي في قطاع غزة، وانهاك المنظومة الصحية بسبب الاستهداف المستمر من قبل جيش الاحتلال للمستشفيات والكوادر الطبية والمسعفين.
حلم الطبيبة "رغد"
أما رغد الفرا (14 عاما) والتي كان حلمها أن تصبح طبيبة واقتربت كثيرا من تحقيق الحلم، حتى جاءت الحرب الدموية واقتلعت معها أحلام الطلبة والأطفال وسرقت أجزاءهما المفقودة، وأصبحت أمنيتهم الكبيرة هي "الوقوف على قدمين" من جديد، بعدما كان هذا الشيء يتكرر كل ثانية ودقيقة متى أرادوا الوقوف أو السير أو الركض.
لم تكن إصابة رغد عادية، فوقعت الإصابة في حدث دموي دونت تفاصيله يوم 22 يوليو/ تموز 2024، بعد شهر من رجوع العائلة لمنزلهم بمنطقة الشيخ ناصر إلى الشرق من محافظة خان يونس، هاجم الاحتلال المنطقة بلا سابق إنذار، وبدأ بقصف وأحزمة نارية، وتلاه دخول دبابات وإطلاق نار عشوائي زادت قسوة المشهد تحليق الطيران المسيّر بإطلاق النيران على المنازل والنازحين.
تقفز مشاهد الحدث أمام ذاكرة أمها، تروي لـ "فلسطين أون لاين": "بيتنا كان مدمرا بشكل جزئي، فأمضينا شهرا بتنظيف وساعدتنا رغد بذلك، لكن الاجتياح كان مفاجئا، وصعبا بتحليق طائرات وقصف وإطلاق نار فقصفت طائرة حربية البيت علينا وعلى جيراننا، فخرجنا وكانت مصابة".
من ساعات الصباح الأولى حتى الظهر لم تتوقف محاولات الأطباء عن إجراء عمليات الإنعاش للفتاة التي كانت في "عداد الشهداء" كما كان يعتقد الأطباء وكانت أقرب إلى وضعها بالكفن، وامتدت المحاولات لبعد ساعات المساء وهي تركض في غرفة العناية المركزة واستمرت بالعناية طيلة شهر كامل تتنفس بواسطة أكسجين اصطناعي.
بين عشرات الأطفال والفتيات من ذوي الإعاقة تبدو حالة رغد هي الأفضل كونها تعاني من كسور شديدة بقدمها وتضع مثبت عظام (بلاتين) في قدمها اليمنى، إضافة لكسور شديدة في عمودها الفقري الذي يمنعها من الجلوس على كرسي متحرك لأكثر من ساعة.
لكن رغد التي لم تفقد أطرافها فقدت أجزاءً من الرئتين بعدما جرى استئصالهم، وطوال الوقت تظل نائمة على السرير الطبي داخل المشفى الذي لم تغادرها منذ ثلاثة أشهر إلا أسبوعين فقط وساءت حالتها بسبب حياة الخيام بعد تدمير منزلها، لتعود لاستكمال العلاج بالمشفى على أمل سفرها "للخارج" وهي أمنيتها المتبقية بعدما فقدت حلمها بأن تصبح طبيبة.
الفتاة التي تتمنى أن تصبح شاعرة، وجهت أبياتا خصصتها لأمها معبرة عن شكرها على مساندتها الدائمة لها ومكوثها بجانبها، جرت على لسانها وهي تتشبث بحلمها "توفيقي يكون بدعائها؛ أمي هبة من الرحمن، يا بسمة ثغري وفرحة عيني وباقة زهري وقصيدة شعري، أروي لك حبا وأقبل يديك عشقا، سامحيني يا نبع الحنان، فأنا عاجزة عن الكلام".
تردف الطفلة التي أوشكت دمعاتها على السقوط وامتلأت بها حواف عينيها "أمنيتي الوقوف على قدمي والسفر لاستكمال العلاج خارج غزة لأن مسكن الألم غير موجود، بعدما كانت لدينا أمنيات كبيرة قبل الحرب".
عن غياب الدواء، تستذكر أمها كيف عانت طفلتها خلال تواجدها بالعناية المكثفة، "كانت لا تستطيع تحمل الألم من شدة الكسور الشديدة وجروحها العميقة، فيعطونها منومًا".
أمل "لين" بالسفر
على جانب آخر، تحمل لين فراس أبو صقر (10 سنوات) ورقة مكتوب عليها "أمل"، لا زال يشرق على قلبها تعتقد أن طرف قدمها المبتور سيعود إليها، وتتمنى كما رفع الأطفال لافتات خلال الوقفة بالسماح لهم بالسفر لاستكمال العلاج بالخارج لعدم توفر الدواء والأطراف في غزة.
لم تستطع أمها حبس دموعها وهي تروي قصة طفلتها التي سبقتها هي الأخرى بالبكاء لحظة تذكر الحادثة الأليمة، والتي وقعت في 3 يناير/ كانون ثاني 2024 بقصف الاحتلال لمنطقة نزحوا إليها تقع بـ"قيزان أبو رشوان" جنوب محافظة خان يونس، وأطلقت طائرة مسيّرة (كواد كابتر) رصاص استقرت بقدمها اليمنى وأدت لبترها وهي تقف على باب خيمتها.
في البداية لم تستدعِ حالتها البتر وركب لها مثبت عظام (بلاتين) لكن مع تفاقم حالتها وحدوث "غرغرينا" بترت القدم للحفاظ على حياتها، فاقت الطفلة على حالتها بعد زوال الألم لتصرخ بحزن وبكاء "وين رجلي!؟"، فكان جواب أمها أن الأطباء سيعيدون القدم مرة أخرى، لموضعها.
لم تستطع الطفلة الوقوف كثيرا على العكاكيز فاستراحت على رصيف بداخل المشفى، "حتى اللحظة لم تعتد على العكاكيز وكثيرا تقع وهي تحاول السير بهما، وقدمها الأخرى بها ضربات كثيرة بسبب السقوط" تقول الأم وهي تضم طفلتها.
نفس معاناة لين، يعيشها الطفل إسلام الفراني (10 أعوام) الذي تحاول أمه اسناده وإمساكه، رغم اتكائه على عكازين، وهذا الأمر يعود لغياب عمليات التأهيل والعلاج الطبيعي المفقود في القطاع، إضافة لغياب الدعم النفسي والدواء والأدوات المساعدة.
وتشتد حاجة مبتوري الأطراف وخاصة الأطفال لمنظومة تأهيل صحية وجسدية ونفسية وهو الأصل بالتأهيل الشامل، وهو غير متوفر حاليا بسبب استشهاد عدد من الكادر البشري ونزوح جزء منهم ، وتضرر الأجهزة الموجودة الأجهزة الطبية بسبب القصف والحرب وعدم وجود قطع غيار لإعادة تفعليها، ومنع الاحتلال إدخال المستلزمات الطبية المساعدة.
فقد الفراني حلمه بلعب كرة القدم والسباحة على شاطئ بحر مدينة غزة لسكنه بمخيم "الشاطئ"، بعدما بترت قدمه في 5 نوفمبر/ تشرين ثاني 2023، وهي أحداث جاثمة على ذاكرة أمه التي تروي لـ "فلسطين أون لاين": "تحاصرنا لأسبوعين ونصف ثم قصف بيت عمته الذي نزحنا إليه، فأصيبت قدمه بشظية وشظية أدت لتلف وجهه مما أدى لبروز أسنانه".
تظهر آثار خيوط طبية تتعرج بوجه الطفل إثر عملية جراحية أدت لإصلاح ما أحدثت الشظية، لكن أثرها سيبقى دائما ليذكر الطفل كلما وقف بالمرآة بتفاصيل الجريمة الإسرائيلية، أو عندما يحاول السير والاتكاء على العكازين.
عاش الفراني الحصار والتجويع بمستشفى الشفاء لمدة شهر بدون علاج أو مخدر كان الألم يدق مساميره فيه، وهي حياة ليست بعيدة عما تعيشه أمه الآن في منطقة المواصي غرب خان يونس، نتيجة حدوث مجاعة وغياب الطحين.