انفجار قوي يهز المكان، يلتفت محمود يمنة ويسرة في محاولة يائسة لفهم ما يحدث من حوله، لكن عينيه اللتين لم تعتادا سوى الظلام، تعجزان عن تقديم أي إجابة، فيمد يديه الصغيرتين ليحاول التحسس حوله علّه يجد شيئًا يطمئنه وسط الفوضى، في تلك اللحظة، تُصرخ شقيقته: "هناك ضربوا صاروخ هي الدخنة!" ليدير إليها رأسه بقلق ويسأل: "ماما، شو دخنة؟ وشو يعني صاروخ؟" كلمات تبدو غريبة على أذن طفل لم يعرف قط ما هو الصاروخ أو ما تعنيه الدخان، هذه المصطلحات، وكل ما يرافقها من رعب، تظل مبهمة في ذهن محمود الكفيف الذي وُلد في عالم مظلم ولم يعرف سوى الأمان الذي تقدمه له عائلته، إلى أن جاء الموت من السماء ليحول عالمه إلى كابوس.
تتحدث والدته سجى أبو شعبان البالغ من العمر (32 عامًا)، من مدينة غزة أنها وعائلتها المكونة من ٥ أفراد اضطرت النزوح من شمال قطاع غزة إلى جنوبه بفعل شدة القصف.
وتقول: "كنت حامل بطفلتي جوري التي أكملت عاملها الأول قبل أسابيع قليلة، واحتاج إلى متابعة صحية وكان بداية حصار مستشفى الشفاء، لكن ما لم أخذه بالحسبان أن ابني محمود الذي ولد فاقدًا لنعمة البصر سيواجه وضعًا صعبًا وتحديات قاسية".
محمود الطفل البالغ من العمر 8 سنوات، بسبب جرثومة في رحم والدته تسببت له بفقدان البصر، وتكلسات على الدماغ أثرت على نطقه، وارتخاء بالفك السفلي، وزيادة كهرباء تسببت له بتشنجات أحيانًا، قدم صورة ملهمة عن الإصرار والتأقلم، لكن حياته تغيرت بشكل جذري بسبب الحرب التي هزّت وطنه.
وتسرد أبو شعبان أن محمود نشأ في كنف عائلة تحبّه وتعتني به، خاصة أبناء عمه الذين كانوا يحيطونه بالعناية والمحبة، حيث اعتادوا اللعب معه والقيام بكل الأنشطة التي تساعده على التكيف مع إعاقته، وعلى الرغم من الظلام الذي يحيط به، كان يعيش حياةً سعيدة في حضن عائلته، متجاوزًا التحديات التي فرضتها إعاقته البصرية.
لكن مع بداية الحرب، تغيرت حياته بشكل جذري، فبعد أن دمرت الحرب كل شيء حوله، اضطرت عائلته للنزوح إلى الجنوب. لم تكن الخيمة الصغيرة التي لجأوا إليها مكانًا مناسبًا لحياة محمود، الذي بات يشعر بالغربة والانعزال.
وتضيف أبو شعبان: "معاناة الحرب كوم ومعاناتي مع محمود كوم آخر، كان اجتماعيا يحب اللعب والمرح مع أبناء عمه، يحب أن يلمس الأشياء ويسمع أصواتها، ولكن الحرب قيدت طفولته".
وعلى الرغم من التحديات العديدة التي واجهها محمود بسبب إعاقته، إلا أن الحرب جلبت لها نوعًا آخر من الألم، الألم النفسي الذي لم يستطع فهمه، حيث يصعب عليه إدراك معنى الطائرات الحربية والصواريخ التي كانت تملأ السماء، حيث كان يلتصق بأمه في كل لحظة خوفًا من الصوت المرعب الذي يملأ الأفق.
"لا أستطيع أن أرى الطائرة، ولكني أشعر بها في قلبي"، يقول محمود ببراءة، بينما تهمس والدته في أذنه كل مرة: "لا تخف، أنا هنا"، إلا أن الخوف الذي يشعر به محمود ليس مجرد خوف من الأصوات، بل هو خوف من المجهول، خوف من شيء لا يستطيع إدراكه أو تفسيره.
وعلاوة على ذلك، تشير أبو شعبان إلى أن صغيرها يشعر بأنه أقل من الآخرين، حيث لم يتقبله البعض في مخيم النزوح ليعاني من شعور العزلة والحرمان من طفولته البسيطة. لم يعد هناك مجال للعب مع أبناء عمه أو الآخرين، وتراكمت مشاعر الحزن والوحدة في قلبه، مما جعل حياته أكثر صعوبة في ظل ظروف النزوح القاسية.
في ظل الوضع القاسي، يستمر محمود في مواجهة حياته بعزيمة، ويواصل رحلته رغم كل العوائق التي يواجهها، ليبقى حلمه الأكبر أن يشعر بالأمان، ويعيش حياة كريمة خالية من الخوف.